أصداء الدقة الرودانية تخيم على سماء مدينة تارودانت في ليلة عاشوراء
و م ع
ليلة لا تشبه باقي ليالي السنة الهجرية عند المولعين بالفنون الشعبية في مدينة تارودانت ، وكذا في أوساط عشاق فن “الفراجة” من حرفيين وباقي فئات المجتمع شباب وكهولا وشيبا ، ذكورا وإناثا . الكل يستعد لهذه الليلة على قدر مستطاعه في تناغم وتجاوب مع روح الجماعة التي تعطي لهذه اللحظة الزمنية نوعا من السمو والقدسية الروحية.
تلك هي ليلة التاسع من محرم ، أو ليلة عاشوراء ، كما يحلو للبعض أن يسميها “ليلة البركة ” ،التي دأب أهل تارودانت على إحيائها منذ عقود خلت وفق طقوس خاصة ،أبرزها إحياء حفل “الدقة الرودانية ” التي تشكل واحدة من مكونات الموروث الفني التراثي لهذه المدينة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ.
وبالنسبة لليلة التاسع محرم من سنة 1440 ، الذي وافق هذا العام ليلة 19 شتنبر 2018 ، كان لعشاق الدقة الرودانية ، ولممارسيها “الدقايقية”، موعد مع حفل تراثي روحاني بمقر “معصرة أيت نعمة ” التي احتضنت وقائع “ملتقى التراث ” في دورته الأولى التي تميزت ايضا بإقامة حفل لفن السماع ، تفننت خلاله جمعية “الإشراق ” في مدح خير خلق البرية ، إلى جانب إنشاد مجموعة مختارة من قصائد فن لكريحة والملحون.
وسط فضاء مكاني غطته الخيام ، وضربت أرضيته بالزرابي ، كما تم تأثيث جنباته بالأرائك ، كان أفواج المدعوين تتقاطر تباعا للاستمتاع بلحظة فنية فريدة لا تتكرر إلا على مدار السنة ، وتجمع بين مشاعر الاحتفالية بما تحمله من مظاهر الغناء والفرح ، ومظاهر النشوة الروحية كما يعكسه لباس المحتفلين والإنشاد والأبخرة وغيرها.
مع اقتراب موعد منتصف الليل ، يتقدم “الدقايقية ” بلباسهم التقليدي تباعا صوب وسط الخيمة ليرسموا دائرة واسعة يتوسطها “لمقدم” ، بابا علي نعمة ، “مايسترو” فن الدقة الرودانية منذ عقود ، ليعطي أوامره ، بنوع من الليونة الممزوجة بالابتسامة العفوية ، للمتحلقين حوله حتى يرسموا ، وفقا لمعايير محددة ، دائرة هندسية لمجموعة “الدقايقية” التي سيتولى ضبط أدائها.
إلى جانب “لمقدم ” باب على نعمة ، الممسك ب”البندير” الذي يعطي به إشارات إيقاعية للمجموعة ، جلس شخصان اثنان ضمن أفراد المجموعة ، أحدهما يمسك ب”بندير” ثان يتولى مهمة تكميلية في ضبط الإيقاع ، شأنه في ذلك شأن حامل ” لقراقش ” ، حيث تتكامل الأدوار الثلاثة لتؤدي وظيفة إيقاعية متناغمة يضبطها قياس موزون لا يقبل الخلل.
يبدأ حفل الدقة بترديد متن قصيدة الدقة الرودانية المعروفة باسم ” العيط” ، الذي يجمع مضمونه بين عدد من الأغراض الشعرية المتعارف عليها في النظم الشعري العربي من ضمنها المدح والغزل والوصف والتوسل والحماسة وغيرها ، حيث يبدأ الإنشاد بشكل بطيء مصحوب بإيقاعات بطيئة حيث يتولى “لمقدم” في هذه العملية دور ضابط الإيقاع ، إلى جانب التذكير بمطلع الأبيات الشعرية (أو ما يسمى العيط ) تفاديا لأي سهو أو إخلال محتل من طرف أحد أعضاء المجموعة ، لاسيما إذا كان من ضمنهم شبان مبتدئون في الممارسة.
رويدا رويدا ومع اقتراب الانتهاء من إنشاد “العيط ” ، يبدأ “مايسترو” الدقة في الإسراع التصاعدي في الإيقاع ، ليتبعه في الوقت نفسه باقي أفراد المجموعة ، لتصل لحظة الذروة التي تتغير فيها وثيرة الإيقاع ، والتي تسمى في المعجم الاصطلاحي لأهل الدقة ب”القفلة”(مشتقة من كلمة القفل).
ويؤكد بابا علي نعمة أن “القفلة” أو “قفيل أفوس” هي بيت القصيد في منظومة احتفالية الدقة الرودانية برمتها ، بحيث إذا لم تتم هذه العملية وفقا لما تقتضيه أصول وقواعد ممارسة فن الدقة فكأن شيئا لم يكن ، وبالتالي فإن الحفل برمته يسوده نوع من الحسرة وعدم الرضى ، وهذا نادرا ما يحدث لأن من يتولى هذه المهمة هو “لمقدم” الذي راكم تجربة في الممارسة الفنية.
وبعد عملية “قفيل افوس” بشكل جيد ، تبدأ مرحلة أخرى من احتفالية الدقة الرودانية تتجاوب فيها مجموعة من الإيقاعات التي تعطي نغما إيقاعيا واحدا ، ليس بمستطاع المستمع غير الممارس لفن الدقة أن يستجلي مكوناته ، بينما هو عبارة عن مجموعة إيقاعات تتجاوب في ما بينها (“داو داو” ، و”الرباعي “، و”القطيع”… ) ، لتعطي جملة إيقاعية متناغمة واحدة.
ويستمر “الدقايقية ” في الضرب على الأدوات الإيقاعية (الطعريجة) على شكل مجموعات صغيرة لفترة غير محددة . وقد تصل لحظة تصبح فيها يد “الدقايقي ” تشتغل بشكل تلقائي على إيقاع معين حيث تتواصل هذه العملية إلى أن يشعر “لمقدم” بأن الوقت قد حان لإنهاء الاحتفالية حيث يؤدي ضربة ذات دلالة على “البندير”، تؤدي وظيفة إثارة انتباه المجموعة إلى الاستعداد لإنهاء الفرجة