الباحث الكويتي صلاح غزال العنزي يرصد طبائع رمضان في مراكش
الكاتب:
صلاح غزال العنزي
في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا الى مساحات واسعة من الخيال وفضاءات رحبة من التقرب الى الله بنوايا صادقة.
فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحا وعانقته وجداناً، وكلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة واختلفت طباعا وعادات وسلوكاً.
للجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.
ونحن في بحثنا هذا نحاول ان نعود بالزمن الى الوراء، ونعيد الرحلة في اتجاه المنابع لأن ما تعيشه شعوب اليوم أتى من بعيد، فهناك ولدت الأسرار. نسافر من منطقة إلى أخرى نبحث عن اخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل اخبارا بسيطة مثل اهلها لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول الى الحقيقة التي تشير جميعها الى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.
ومراكش المدينة الحمراء التي تجاوز عمرها ألف عام، وكانت ملتقى حضارات الشمال والجنوب والشرق، وعاصمة الدول المحلية المتعاقبة، أهلها جمعوا الأصالة والتقوى والطباع السمحة والإسلام الأصيل.
الجذور والتاريخ
تقع مدينة مراكش المغربية جنوبي العاصمة الرباط، وبين الدار البيضاء وأغادير، غير أن مراكش إحدى المدن الداخلية التي لا تقع على المحيط الأطلسي مثل غالبية المدن المغربية السياحية، بل تبعد عنه عشرات الكيلومترات، فتجاور جبال الأطلس وتشرف على الصحراء، الأمر الذي جعلها مغلقة بعض الشيء وتحتفظ بالكثير من العادات والتقاليد القديمة التي لم تتأثر كثيرا بالتطور والحداثة ومظاهر العصر الحالي التي غزت معظم المدن العربية.
وتأسست مراكش على يد يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين عام 1070م، ليتخذها عاصمة لدولته، وبعد ان استولى الموحدون على المغرب اتخذوا مراكش عاصمة لهم ايضا، فنالت رعايتهم واهتمامهم وبنوا العديد من معالمها التاريخية والحضارية كجامعها وقنطرتها واحيائها القديمة.
وبعد ان ضعفت دولة الموحدين ووهنت استولى المرينيون على الحكم، فنقلوا عاصمتهم الى فاس، حيث مسقط رأس مؤسس دولتهم، فتراجع دور مراكش واهميتها الى ان حكم السعديون المغرب في القرن الخامس عشر فأعادوها عاصمة لمملكتهم وبنوا فيها قصر البديع التاريخي ومجمع المواسين ومدرسة ابن يوسف والعديد من المباني الأخرى، غير أن العلويين اختاروا مكناس عاصمة لمملكتهم الجديدة فقل الاهتمام بمراكش حتى جاء السلطان سيدي محمد الادريسي فأولاها بعض الاهتمام، وبقيت على تلك الحال حتى يومنا هذا، إذ لم تتغير بها الكثير من المعالم والعادات.
وأهل مراكش هم أهلها التاريخيون، لم يتغيروا كثيرا ولم تتأثر المدينة بالهجرات القادمة والرائحة، حيث لم تكن مطمعا لمثل هذه الهجرات لوقوعها في الداخل وحماية الاطلس لها، لذا فإن عاداتهم وتقاليدهم لم تتغير كثيرا عن الجذور، وبقوا محتفظين بالكثير من العادات والتقاليد الاصيلة.
رمضان قبل مئة عام
كان المراكشيون قبل قرن من الزمن يتعاملون بالكلمة، ويلتزمون بالوعد ويكتفون بالثقة، فحين يسمع اهل السوق أذان المسجد يضع صاحب المحل كرسيه الخشبي ذا الطراز القديم أمام باب المحل، إشارة الى ان صاحب المحل غير موجود في الداخل ثم يترك باب المحل مفتوحا ويغادر للصلاة.
بهذه النفس الراضية كان المراكشيون يستعدون لاستقبال شهر رمضان بكل فرح وسرور، ولهم انشودة قديمة تقول بعض مفرداتها بابا رمضان رمضاني عليك كانبيع السروالي، وفي الكلمات دلالة واضحة على عشق نقي وشعور صادق وبساطة في التفكير ايضاً.
ومنذ أول شهر شعبان يبدأ المدخنون المراكشيون بالتوقف عن تدخين عشبة القنب أو الكيف الذي اشتهرت به مراكش قديما، فهم على بساطتهم وبساطة فهمهم للنصوص الشرعية يرون ان ما يمكن ان يمارسه الفرد في بقية ايام السنة يمكن التكفير عنه بالتوقف في شهري شعبان ورمضان لأن لهما حرمتهما، لذا فإنهم قديما يرددون الكيافة ويلكوم رمضان جايكوم، اي انه يهدد الكيف ومدخنيه بقدوم شهر رمضان الذي سيجبرهم على التوقف.
والحقيقة ان بساطة الانسان المراكشي في الماضي تجدها واضحة في صدق استقباله للشهر الكريم وطرق الاستقبال ايضاً، فالمراكشيون القدماء كانوا يتوقفون عن إقامة المناسبات السعيدة مثل الزواج والختان وغيرها في شهر رمضان حتى لا تشغلهم عن العبادة.
وتعود المراكشي على ان يتوجه الى السوق، فيشتري المجمر والطاجين والطنجية قبل اي شيء آخر، والثلاثة أهم أدوات الطبخ، وبدونها لا يمكن للمرأة المراكشية ان تطبخ للفطور شيئا، حيث تعودت النساء على تجديد المطابخ في رمضان تبركا، فتجد الطاجين قد وضع فوق المجمر منذ عصر رمضان ليطبخ الفطور على نار هادئة.
ويتبضع المراكشيون لرمضان منذ منتصف شعبان، فلا يتركون حاجة من حاجات رمضان إلا اشتروها، عدا ما تعارفوا ان يشتروه اولا بأول بقصد الحصول عليه طازجا كاللحوم والخضار، وفي آخر أيام شعبان يبقى معظم الرجال في المساجد بعد صلاة العصر، ويهرعون للاستهلال فوق التلال واسطح المساجد والقلاع حالما يقوم المؤذن برفع أذان المغرب، وحين تثبت رؤية هلال رمضان يحتضن المراكشيون بعضهم ويتبادلون التهاني ويذهبون الى اهاليهم وهم في غاية السرور.
الأسواق المراكشية القديمة
وعلى العكس من معظم المدن المغربية في الماضي كان في مراكش العدد الأكبر من الأسواق القديمة التي توفر مختلف البضائع المنتجة او المصنعة محليا او مستوردة من الخارج، فكان يؤم هذه الأسواق المراكشيون وغير المراكشيين من المدن والقرى القريبة.
واشتهر أصحاب المحال التجارية القدامى بأمرين: الصدق في التعامل والالتزام بالوعد أو الكلمة، وخفة الدم الملازمة للمراكشي والتعليق او القفشة السريعة التي يلقيها على مسمع الزبون في اول فرصة ممكنة.
ولعل اشهر الأسواق المراكشية القديمة سوق الربيع، وهو سوق قديم كان في أول أمره على شكل بسطات يومية في ساحة جامع الوفا الشهير، ثم اصبح في يوم الخميس فقط فسمي سوق الخميس، بعد ان تم نقله الى باب اغمات، ثم اعيد الى ساحة الجامع، وكانت تباع فيه كل أنواع البضائع خاصة المواد الخضار والفواكه والدواجن والاسماك.
كما كان سوق السقائين في الساحة أيضا، حيث يتواجد بائعو ماء الشرب يحملون قربهم على الدواب، وعرفت الساحة أيضا بتواجد السمارين، وهم المختصون بصنع نعل الخيول والبغال، ومن الأسواق القديمة أيضاً سوق القصب، وهو سوق كان يختص بالصناعات الخوصية التي تنتج من سعف النخيل، مثل السلال والرفوف والمكانس وبقية المنتجات المنزلية، وكان موقع السوق خلف المدرسة اليوسفية قبل ان ينقل الى طريق الصويرة في ستينيات القرن الماضي.
وكان سوق البلوح مجاورا لسوق القصب، وتبيع محاله البلح او التمر بمختلف انواعه والدبس أيضا، خاصة ان مراكش كانت من اشهر مدن المغرب انتاجا للتمور، اما سوق الشوي فكانت محاله اشبه بالمطاعم البدائية التي تعد اللحوم المطبوخة او المشوية والراس والكوارع وبقية مشتقات اللحوم الحمراء والبيضاء والسمك، وكانت روائح الأطعمة تملأ الساحة والممر الواقع بين المحال.
أما سوق الفوالة فيكثر زبائنه في الفترة التي تتلو صلاة التراويح، حيث كان المراكشية يشترون الفول والحمص والموالح والمخللات والزريعة والجوز، ومعظمها اكلات تناسب السحور، وسوق الفاخر هو السوق الذي تباع به الاخشاب التي تستخدم للطبخ، كما كان يباع به الدجاج البلدي والاوز والديوك ومختلف أنواع الدواجن.
ولعل اهم الأسواق المراكشية القديمة التي كان الناس يقصدونها في مختلف الشهور، وإن كان في شهر رمضان يعج بالزبائن، وهو سوق الرحبة المخصص لمختلف الحبوب كالقمح والرز والشاي والسكر والقهوة والاواني المنزلية والفوانيس الزيتية القديمة والمناخيل والطواحين اليدوية.
وكانت بعض محاله تبيع البهارات والأدوية الشعبية والزيتون والزيت، كما كان سوق المواشي الحية يقع بجواره، حيث يبدأ سوقها بعد صلاة الفجر وينتهي عند شروق الشمس فيذهب الباعة الى بيوتهم وتخلو الساحة من الناس، ويقوم عمال النظافة بتنظيف الساحة على الطريقة اليدوية القديمة قبل ان يتم نقل سوق المواشي خارج مراكش على طريق الصويرة في خمسينيات القرن الماضي، بعد ان اعلن أصحاب المحال المجاورة والمتسوقون ضيقهم من الروائح الكريهة التي تصدرها المواشي.
جامع الفنا
يعتبر المسجد من اهم معالم المدينة في رمضان، حيث تهتم الإدارة المحلية به كثيرا، فتجدد فرشه سنويا وتغير مصابيحه الزيتية، وكان إمام الجامع دائما من مشاهير قراء القرآن في مراكش، ويقصد الناس الجامع في رمضان للصلاة خلف الإمام وسماع صوته الجميل عند قراءة الآيات القرآنية.
وكان الجامع وساحته الواسعة يعجان بالمصلين القادمين الى المسجد من مختلف الاحياء والأرياف أيضا، وعرفت أطراف الساحة الكبيرة بالنشاط الدائم في النهار، حيث توجد المحال التي تبيع البضائع المختلفة، كما كانت متنزها للأسر في ليالي رمضان، حيث كانوا يحضرون معهم فرش الحصير والمشروبات الساخنة خاصة الشاي الأخضر.
وكانت معظم الاسر تتواعد على الالتقاء بالساحة، وبعضها قد يخرج باتجاه الريف لقضاء سويعات من السرور، خاصة اذا أتى شهر رمضان في أجواء معتدلة كفصلي الخريف والربيع.
المائدة المراكشية
لا تختلف المائدة المراكشية عن المائدة الرمضانية المغربية في الماضي، وهي قديمة وتاريخية وذات خصوصية ولا تشبهها مائدة أبدا، فلا يمكن انكار ما لموقع المغرب من أثر على اطعمته، فهو ملتقى الحضارات والأمم وهمزة الصلة بين العالم القديم جميعه، لذا فقد تأثر بالأطعمة العربية، لأن معظم سكانه من العرب، كما تأثر بالمطبخ الامازيغي، وهم سكان المغرب الاصليون، إضافة الى ذلك فقد تأثروا بثقافة الطعام الأوروبية التي انتقلت لهم عبر الأندلس والإفريقية المتصلة بالمغرب جغرافيا وتجمعها معهم قارة واحدة، لذا فقد كان المطبخ المغربي القديم مميزا وخاصا.
وفي رمضان كانت المائدة المراكشية لا تخلو من أربعة عناصر رئيسية: التمر او البلح، كما يسميه المراكشيون، والحريرة وهو حساء كالشوربة مشهورة جدا في عموم المغرب وفي مراكش خصوصا، وعادة ما كان الصائم يشربه بعد تناول التمر واللبن مباشرة، ويتكون من مجموعة من الخضار والطماطم والحمص والعدس، والطاجن وهو الوجبة الرئيسية في الفطور، وهو أنواع كطاجن الدجاج وطاجن اللحم وطاجن السمك، وسمي طاجنا لأنه يوضع قديما في إناء فخاري ضيق الفم وله غطاء فخاري أيضا لحفظه ساخنا بطريقة دفع البخار الى الأسفل، ويسمى الإناء أيضا طاجن، والكسكسي وهو طبق مغربي مشهور لا تكاد تخلو منه المائدة المراكشية الا نادرا، ويتكون من حبيبات القمح المطبوخة مع اللحم والمرق والخضراوات والزبد وبعض السكر.
وقد يستبدل اللحم بالدجاج او تكتفي سيدة المنزل بالخضار فقط اذا كانت الاسرة فقيرة او محدودة الدخل، اما البسطيلة فهي احدى الاكلات المهمة لدى المراكشيين واصلها أندلسي، وتصنع من الخبز المحشي بالدجاج او الحمام، ولا يتواجد هذا النوع من الطعام الا على موائد الأغنياء قديما.
وتكثر السلطات المغربية على الموائد الرمضانية المغربية والمراكشية على وجه الخصوص، حيث عرفت مراكش قديما بأنها زراعية، وهي نوعان سلطات ذات خضار مطبوخة وسلطات بخضار طازجة مخلوطة بزيت الزيتون، كما تتعدد الحلويات التراثية القديمة واهمها المعمول والشباكية والبلحية. وما يميز المائدة الرمضانية المراكشية والمغربية أيضا الشاي المغربي الأخضر المصنوع من الأعشاب، ويشرب في كؤوس زجاجية صغيرة تملأ الى منتصفها ولمرة واحدة، واصبح يضاف له النعناع في الفترات المتأخرة ويسمى الشاي المنعن.
النفار والنفايري
هو ما يسمى في مدن الشرق العربي المسحراتي او المسحر او أبو طبيلة، كما في مناطق الخليج العربي، ويبدأ عمل النفار بعد منتصف الليل بالمرور على المنازل وبيده عصا يضرب بها على أبواب البيوت، وينادي على من يعرفهم بأسمائهم، فيعطونه ما تجود به انفسهم، وكان في الماضي طعاما في الغالب.
ويقال ان اول ظهور للنفار بمراكش كان في زمن السعديين في القرن الخامس عشر، باقتراح من والدة السلطان أحمد منصور الذهبي التي امرت مجموعة من الرجال بالقيام بالمهمة، وعينت كل واحد على احد الاحياء، وفي الليلة الأخيرة وزعت عليهم الكثير من الأموال والكسوة.
ويروى انها فعلت ذلك لأنها افطرت في أحد أيام شهر رمضان، بعدما لم توفق في النهوض من نومها، ولم تتناول السحور فلم تستطع إكمال يومها صائمة في يوم شديد الحرارة ما جعلها تفكر مليا في طريقة تساعد الناس في النهوض للسحور.
وكان النفار يردد العديد من الأناشيد وهو يمر على البيوت ويطرق على الأبواب، وأشهر الأناشيد القديمة التي كان النفار المراكشي يرددها عودة كالت رمضان بالخوخ والرمان اغفر ليها يا رحمن، كما كانت عادة المراكشيين ان الصغير اذا اتم صوم عدة أيام من رمضان يعطيه اهله مالا ولباسا خاصا، ويطلبون من النفار ان يأخذه عصرا لزيارة قبر أحد الأولياء الصالحين والدعاء له هناك، وبعد ان يتم النفار مهمته يعطيه الصغير النقود التي أعطاه إياها والده.
عادات جميلة
دأب المراكشيون قديما على التزاور في أيام شهر رمضان الأولى، وتبادل التهاني والتبريكات بقدوم الشهر الفضيل، وغالبا ما تكون منازل الاهل والاقارب متجاورة فيجتمع عمومهم عند قريبهم الأكبر سنا، حيث يكون قد فرش الفرش واستعد لاستقبالهم مرتديا السلهام وغطاء الرأس ومتوسطا المجلس، ويبدأ الجميع بالسلام عليه ومصافحته او تقبيل رأسه خاصة الأبناء والبنات، اما الاحفاد فانهم كانوا يقبلون يده.
كما كان الأهالي الذين يبيعون الخضار والاطعمة في بسطات متنقلة يقومون بتوزيع ما زاد من بضاعتهم، ولم يوفقوا في بيعه على جيرانهم وأقاربهم قبل المغرب بقليل، وكان المراكشيون يحتفلون بليلة الخامس عشر من رمضان وليلة السابع والعشرين منه ويسمونها ليلة الفضيلة.