الظاهرة القائدية بالجنوب المغربي …الباشا لكلاوي نموذجا
لازال البحث حول الظاهرة القائدية متعثرا بالمغرب، فالقياس الكمي للعناوين التي تهم القواد الكبار بالمغرب زمن الحماية يجعلنا نستشف ضعف شبكة البحث في هذا النسق السوسيوسياسي. فهل هو تهرب من واقع تاريخي لا زالت آثاره بادية إلى يومنا هذا في عدة مناطق خاصة بالجنوب المغرب؟ أم أن الأمر لا يتجاوز فغرة وثائقية تجعل الباحثين عاجزين عن مباشرة البحث؟ أم هو عائد للسببين معا أو لعدة أسباب أخرى غابت عنا حيثياتها ؟
لقد راودتنا الرغبة منذ زمن ليس بالبعيد لدراسة الظاهرة القائدية بالجنوب المغربي انطلاقا من أنموذج الباشا التهامي المزواري الكلاوي، فهو يعكس في سيرته الشخصية التحول الطارئ على القائد من مجرد موظف مخزني قائم على جباية الضرائب و استثبات الأمن داخل ترابه، إلى قائد متزايد الهيمنة و السلطة و أكثر تحررا من قيود المخزن، و أكثر تعسفا في علاقته بالسكان الخاضعين للقهر و الإرهاب، بعد تدمير و إضعاف ميكانيزمات الدفاع لدى القبائل الخاضعة لسلطته، هاته السلطة التي منحها إياه المخزن في البداية أي طيلة القرن التاسع عشر بغية تحطيم العادات و التقاليد المحلية حسب روبير مونطاني.
أكد الفقيد بول باسكون في دراسته حول حوز مراكش أن المدخل الرئيسي لدراسة التاريخ الاجتماعي و البنيات الزراعية بالمجال سالف الذكر هو التساؤل حول ارتقاء قواد كلاوة خاصة المدني و التهامي الكلاوي، لكنه أشار في موقع آخر إلى أن دراسة مصير أسرة كلاوة لا يمكن أن يبدأ في الوقت الذي لازالت فيه الوثائق الخاصة بالأسرة غير متاحة للعموم، و اشترط لانجاز بحث علمي حول الموضوع انتظار الإفراج عن الأرشيف العائلي الذي تمت مصادرته بعد سقوط الأسرة الكلاوية، و حتى يعود بإمكان الباحث قراءة التقارير و الوثائق الفرنسية الصادرة خلال فترة الحماية الفرنسية قراءة نقدية.
و يضيف باسكون أن تاريخ أرشيف و مكتبة الحاج التهامي الكلاوي لازال يكتنفه الغموض، فقد كانت للباشا مكتبة غنية بالمخطوطات العربية النادرة بقصره في مراكش، و بعد وفاته قام ورثته بإعداد فهرس لها بمساعدة ناظر احباس مراكش، بهدف وضع محتوياتها بخزانة جامعة ابن يوسف، و بسبب تهاون النظارة في أداء مهمتها لم تحز المكتبة و تم نهب محتوياتها خلال أعمال النهب التي طالت قصر الكلاوي، أما فيما يتعلق بالأرشيف، فقد قرر الورثة إحراقه و إسناد هذه المهمة للسكرتير المكلف بهذا الأرشيف و احد الورثة و شخص آخر لم يحدد باسكون هويته، و هو ما يدل على أن عملية إتلاف الأرشيف اتسمت بالسرية التامة لخطورة الوضع آنذاك. و قد وجدت أكياس مليئة بالوثائق خلال عملية المصادرة و البعض من الكتب التي سلمت من النهب، و حول جزء من الوثائق و الكتب المصادرة إلى المكتبة العامة بالرباط. أما التقارير التي وضعها موظفو إدارة الاستعلامات خلال فترة الحماية ذات الصلة المباشرة بأسرة الكلاوي فتم تأشيرها بعبارة “سري” تبعا لتعليمات المارشال ليوطي سنة 1925 و الجنرال دوكان سنة 1926 و الجنرال لوستال سنة 1937. و قد صرح احد حفدة القائد الكندافي لباسكون أن جوستينار اخبره انه “ألف كتابا حول الكلاوي، لكنه لا يستطيع نشره في حياته”.
أما الكتابات التي تخلفت لنا عن الباشا خاصة بعد الحرب العالمية الثانية فقد جعلت من الكلاوي وحشا مقدسا، و نجما حديثا منبثقا من العصور البربرية، و من بينها كتاب كفان ماكسويل المسمى “سيد الأطلس” المنشور سنة 1966، و كتاب جاك لوبريفوست المعنون “الكلاوي”، الصادر بباريس سنة 1968..
لقد اخترنا من هذه الكتابات للتعرف على الباشا التهامي الكلاوي، كتابين احدهما لكاتب أمريكي عاصر و عايش بل و جالس الكلاوي و هو جون جنتر، أما الثاني فهو مؤلف تاريخي للفرنسي كُوي دولانوي يحمل اسم “ليوطي، جوان، محمد الخامس : نهاية الحماية”.
جون جنتر و الكلاوي :
بدأ جون جنتر مجموعة مؤلفاته بكتابه “داخل أوربا” الذي نشر سنة 1936، و بنشر هذا الكتاب ذاع صيت جنتر على نطاق واسع و هو ما دفعه إلى تأليف كتابه الثاني الذي سماه “داخل آسيا”، ثم أعقبه كتابه الثالث “داخل أمريكا اللاتينية”..و تناسلت مؤلفاته على هذا النحو حتى اصدر سنة 1953 كتابه “داخل إفريقيا” الذي شرع في إعداد و جمع المواد اللازمة لتأليفه منذ 1931 إن لم يكن قبل ذلك بقليل. و قد خص الفصل السادس منه لسيد بلاد الأطلس، و قد صدر هذا الكتاب باللغة العربية عن مكتبة الانجلو المصرية سنة 1960، بإشراف و مراجعة و تقديم حسن جلال العروسي المحامي، أما الفصل السادس فقد قام بترجمته سليم عبد القادر.
لقد أثار الكلاوي إعجاب جنتر حتى بات يبحث له عن أشباه أوربيين يقيسه عليهم، و هو تشبيه لم يرمي من ورائه للمساواة بينه و بين بعض الشخصيات الأوربية، لكنه هدف من خلاله تبسيط صورة الكلاوي من خلال وضعها في قالب أوربي يسهل استيعابه من طرف القارئ الأوربي المُلم بشؤون أمته و الجاهل لخصوصيات المغرب، فهو يقول : “هذا الزعيم العجوز الباهر من أعجب الشخصيات التي صادفناها في إفريقيا، فهو شارل الجسور الشرقي، فقد حضر في شبابه 121 معركة و جرح اثنتين و ثلاثين مرة، و يباهي بعدد الرجال الذين قتلهم بيده، و له رشاقة سوداوية تشبه خفة القط تقريبا، و قد دعاه الناس بمترنيخ مراكش، و هو أيضا سوفسطائي مثل كردينال من الطراز الأول، و تولى أعماله كأي كردينال حاذق على سياسة رسمها لنفسه و لم يتحول عنها قط”، انه وصف يكشف عن اتصاف الكلاوي بأهم خصال شارل الجسور و مترنيخ و الكاردينالات المسيحيين. و يضيف جنتر قائلا : “و للكلاوي ألقاب أخرى، فهو سيد بلاد الأطلس، و السلطان الأكحل، و غزال بلاد السوس..و اسمه الكامل هو الحاج التهامي الكلاوي المزواري، و يلقب بباشا مدينة مراكش، و تمتد أملاكه آلافا من الأميال المربعة، و يسكن فيها نحو مليون من البربر إن لم يزيدوا، و له جيش خاص من البربر يبلغ حوالي 300 ألف يدينون له بالإخلاص التام الذي لا مواربة فيه و ربما كان الكلاوي آخر سيد إقطاعي على وجه البسيطة يملك مثل هذا العدد الكبير من الرجال المسلحين”. لقد استولى الإعجاب على جنتر حتى خال نفسه بأوربا الفيودالية، فصوّرَ الكلاوي كآخر إقطاعي بالعالم، متناسيا خصوصيات المغرب و النظام القائدي المغربي الذي لا يمكن مساواته بالنظام الإقطاعي الأوربي بسبب وجود اختلافات جوهرية بينهما سبق و بيّنها بول باسكون، مع تسجيل اعتراض الباحث الهادي الهروي على هذا الفصل و تبنيه للطرح الفيودالي بالجنوب المغربي مرتكزا في ذلك على التماتلات القائمة بين القائدية و الفيودالية كالسيطرة على أراضي شاسعة و على أعداد هائلة من السكان، و العلاقات الإنتاجية القائمة بين القواد المالكين للأراضي و الفلاحين المنتجين الحقيقيين، و مسكن القائد الشبيه بقلاع الأسياد خلال العصر الوسيط الأوربي، و اضطرابات الوسط الاجتماعي الممهدة لفقدان الفلاحين لأراضيهم و انتقالهم إلى العبودية أو القنانة و خضوعهم بعد ذلك لشبكة من روابط التبعية و الولاء.
يسترسل جون جنتر في وصف الكلاوي ذاكرا انه “يستمد نفوذه السياسي القوي من انحيازه دائما إلى جانب الفرنسيين، و لو أنه يستنكر بشدة أي اتهام له بأنه مجرد آلة، و الواقع انه ليس آلة كالسلطان الجديد و لكنه حليف للفرنسيين له أهميته، فهو يحب الفرنسيين كما يحبونه، و هو فخور بمركزه”. تجب الإشارة هنا إلى أن السلطان الجديد المقصود هو محمد ابن عرفة الذي تمت مبايعته بعد نفي محمد بن يوسف سنة 1953.
أما فيما يتعلق بملامح الكلاوي و أخلاقه و أنشطته فيقول جنتر عنها : “الباشا الكلاوي طويل أسود نحيف، و وجهه حسن تظهر عليه مخايل الخبث الجذاب، و يداه العجوزتان متجعدتان مثل ثمرة الجوز و له ابتسامة جذابة، و قد أربى على الثمانين سنة، و لكنه ما يزال محتفظا بقوته البدنية، و الثمانون من السنين لا تعد سن اليأس عند البربر، فللكلاوي أخ اكبر منه اسمه سيدي حاسي يبلغ من العمر ستا و تسعين و مع ذلك ما يزال يعمل بنشاط كحاكم إداري و يلقب بباشا القصبة.
و الكلاوي مسلم تقي أدى فريضة الحج أكثر من خمس مرات و لم يشرب الخمر قط في حياته و لو أنه ليس عنده مانع من أن يقدمها إلى ضيوفه من الأوربيين، و هو يلعب الجولف جيدا، و ميدان اللعب الخاص به قريب من مدينة مراكش و هو أحسن ميدان في شمال إفريقيا. و قد اشتهر الكلاوي بشجاعة البدن، كما عرف بإقدامه و سرعة التنفيذ. و قد حدث ذات مرة أن أخمد مظاهرة بضرب السياط. و هو شغوف بالنزول في أفخم فنادق لندن و باريس، و يذهب إلى فيشي مرة كل عام للاستشفاء بمياهها، و هو يعرف الفرنسية و لكنه يتكلمها ببطء و على كل حال يفضل التحدث باللغة العربية أو البربرية عن طريق مترجم، و له سكرتير كفء اسمه ألبرت بردوجو من أسرة يهودية عريقة في مدينة طنجة، و ربما كان استخدام الباشا لسكرتير يهودي مثار دهشة أولئك الذين لا يعرفون أن المغاربة و اليهود يعيشون معا في وئام تام”.
الكلاوي المُسن القوي المسلم الرياضي الشجاع الحازم الحداثي المنفتح، إنها أوصاف يبرر من خلالها جنتر المكانة التي تبوأها الكلاوي داخل المخزن المغربي و الإقامة العامة الفرنسية، فقد أمست شخصية الكلاوي محور اهتمام بالغ من قبل كل من أتيحت له فرصة لقائه، بغية الكشف عن سر تألقه و ارتقائه في هرم السلطة و الكشف عما يميزه عن بقية قواد الجنوب المغربي.
و للتأكيد على تميز الكلاوي، يبحث جنتر عن أصول الكلاوي للكشف عن البنيات العميقة المسؤولة هي الأخرى عن ارتقاء هذا الرجل في مراتب السياسة، فيذكر أن الكلاوي “ينحدر من الأسرة الكلاوية التي تمتع زعماؤها خلال المائتي سنة الأخيرة بقوة و سطوة عظيمتين في هذا الجزء من المغرب و في أوائل القرن العشرين وقع الصدام بين ثلاث أسر إقطاعية في سبيل الانفراد بالحكم في ممرات جبال الأطلس، و كان الكلاوي إذ ذاك شابا محاربا قويا و اشتدت الحال لدرجة أن أعداء أسرته المغيرين وصلوا إلى ضواحي وجدة، و كان أخوه الأكبر المدني رئيسا للأسرة و أميرا على بلاد السوس و قد اشترك المدني في خلع السلطان الأسبق عبد العزيز سنة 1907 كما اشترك الكلاوي نفسه في خلع السلطان محمد الخامس بعد ذلك بست و أربعين سنة. و في سنة 1908 أصبح الكلاوي باشا لمدينة مراكش و إذا استثنينا فترة قصيرة من الزمن فان الكلاوي ظل باشا مدينة مراكش للآن. و قد كان باشا أو حاكما حينما غزا الفرنسيون البلاد عام 1912 و حينئذ صمم على خطة اتبعها طول حياته و هي انه بزعامة أخيه وطد النفس على الترحيب بالفرنسيين بدلا من أن يحاربهم، و في الواقع انضم هو و أخوه إلى الفرنسيين بدلا من أن يحاربهم، و في الواقع انضم هو و أخوه إلى الفرنسيين لطرد أحد مغتصبي الحكم في مراكش (يقصد جنتر هنا أحمد الهيبة)، ثم أصبح الكلاوي صديقا صدوقا للمارشال ليوطي الفرنسي، و لما نشبت الحرب العالمية الأولى دعاه المارشال ليخبره أن فرنسا ربما استدعت الحامية الفرنسية في مراكش لتشترك في الدفاع عن فرنسا نفسها، ثم سأله عما عساه أن يحدث في مراكش إذا انسحب الفرنسيون فأجاب الباشا بلهجة الواثق : “اترك لي هذه المسألة…و بعد ذلك أصبح الكلاوي الآلة الرئيسية التي استخدمها الفرنسيون في إخضاع مراكش، و قد قاتل و اخضع أهل وطنه خدمة لفرنسا و في الحرب العالمية الثانية كافح كثيرا في خدمة قصية الحلفاء و رفض أن يكون له أي اتصال بلجنة الهدنة الألمانية مدة حكومة فيشي و احتفظ برجال قبائله مسلحين وراء الجبال ثم استقبل الأمريكيين بحماسة لما نزلوا في الدار البيضاء سنة 1942 و فرح لاسترداد فرنسا لسلطتها على البلد، و لذلك كان من الطبيعي أن يشغل أقارب الكلاوي مناصب حكومية كثيرة، فأخوه الأكبر المدني شغل منصب الصدر الأعظم و لا تنس أنه صهر المقري الصدر الأعظم الحالي.
و يقال أن الكلاوي زوج لأربع نساء علاوة على أربع جوار، و ربما كان له عشرون أو ثلاثون ولدا، غير أنه من المتعذر أن يعرف إنسان حقيقة ذلك و من بين هؤلاء ستة أولاد و بنتان معروفون جيدا..و قد أرسل أولاده إلى مدارس فرنسية ممتازة، بل إنهم يدرسون الفرنسية و هو في سن الطفولة، ثم انه حرم عليهم الكلام بالعربية في القصر لرغبته في تحسين لغتهم الفرنسية..و اكبر أبنائه يسمى سي إبراهيم و أمه شركسية، و يشغل الآن منصب قائد مدينة تلوات و يبلغ حوالي الثلاثين سنة، و هو شاب عجيب التركيب فهو قوي البنية لدن العود و في الوقت نفسه تراه أصغر قليلا جميل الوجه متحفظ في كلامه إلى درجة تثير المضايقة..و هناك سي صادق و هو ابن آخر يشغل وظيفة قاض في محكمة الباشا في مدينة مراكش، و هو جذاب ذو ذكاء حاد مع هدوء في الطبع و كان يود الذهاب إلى كلية الحقوق بجامعة هارفارد غير أن والده حمله أعمالا ثقالا لم يستطع الفرار منها…و هناك سي حسن و هو فنان ممتاز أقام أخيرا معرضا لصوره في صالة فيلدنشتاين في نيويروك بعد أن أقام معارض مماثلة في باريس و هو شقيق لصادق و من أم واحدة..و يوجد أبناء آخرون للباشا منهم سي محمد قائد بلدة ايت اورير و سي عبد الله قائد بلدة متوكة و سي احمد احد نواب والده في حكومة مدينة مراكش، و هناك ولد آخر كان لامعا و يرجى منه كثيرا و يكاد يكون من المؤكد أن يخلف والده لو عاش و هو سي مهدي فقد تعلم في كلية سان سير و التحق ضابطا بالجيش الفرنسي و كان شجاعا و لكنه قتل في ايطاليا خلال الحرب العالمية الثانية..و خلاصة الرأي في الباشا الكلاوي انه رجل فردي و جسور إلى أقصى حد، فهو عبارة عن خليط أو مزيج من روبين هود و روبرت هنتزو”.
نكاد نكون متأكدين من أن ما تقدم في وصف الباشا التهامي الكلاوي و أبنائه لم يكن إلا نقلا أمينا من جنتر لما جاء على لسان الكلاوي نفسه في رده على تساؤلات هذا الكاتب الأمريكي خلال زيارته له بقصره في مراكش، و دليلنا في ذلك زيادة على محتوى شهادة جنتر هو قول المؤلف أن من يبحث عن الحقائق في إفريقيا ينبغي له أن يلتمسها من الأفراد لا من الكتب و المراجع، و هو مؤشر على اعتماد الرواية الشفوية بالأساس في الحديث عن الكلاوي لا على الوثائق المكتوبة التي لم يشر جنتر إلى أية واحدة منها ربما لعدم إمكانية اطلاعه عليها آنذاك. كما أن هناك مؤشرات أخرى سيأتي الحديث عنها فيما بعد أثناء رصد صورة الكلاوي في كتاب كوي دولانوي.
قد تكون شهادة جنتر خالية من أية إفادة تاريخية، لكنها و إن صح ما افترضناه سابقا حول مصدرها فستكون تعبيرا صادقا عن أفكار الكلاوي الشخصية و قناعاته.
كوي دولانوي و الكلاوي باشا مراكش
يتفق الباحث كوي دولانوي مع جون جنتر في وصفه للباشا التهامي الكلاوي بالفيودالي، و ذلك انطلاقا من معاينته لحجم الأراضي الزراعية التي كانت تحت يده و كذا عدد السكان الخاضعين لسلطته، و يبدأ حديثه عن الكلاوي بمناقشة سريعة لقضية الأصول، فيقول أن الكلاوي بربري خالص، رغم ادعائه الانتماء إلى السلالة الأموية، فأسرة الكلاوي تعود أصولها إلى تيكمي ن إيمزوارن، و بعد تقهقرها اثر حروب بيقبلية، تم السماح للأسرة من طرف كلاوة بالاستقرار بتلوات، و لن تخرج أسرة ايمزوارن في تلوات من الظل إلا عند نهاية القرن التاسع عشر.
ثم يطرق دولانوي بعد ذلك قضية ثروة الباشا التهامي، و يعود في بحثه عن مصدرها إلى أخيه المدني الذي حصل من السلطان على ظهير توليته خليفة على تودغة و تافيلالت، و بواسطة ظهير آخر سيسيطر المدني كذلك على تازرت و أراضيها المسقية الغنية، و عبر القوة و العنف و دعم السلاطين سيمد المدني مجال نفوذه، في الوقت الذي يرافقه أخوه الأصغر التهامي كمجرد راجل أو مخزني.
و في سنة 1902 سيهدد الثائر بوحمارة المخزن، ليستدعي هذا الأخير كلاوة لردع هذا التمرد، و سينتهز الحاج التهامي الكلاوي الفرصة لإبراز قدراته القتالية و شجاعته و هو ما سيجعله قائدا لحركة كلاوة. و في سنة 1909 سيعين مولاي عبد الحفيظ المدني صدرا أعظما، ليتم بذلك الإعلان عن انتصار كلاوة، و في 8 يوليوز من نفس السنة سيعين الحاج التهامي باشا على مدينة مراكش.
سيستقر المدني الكلاوي بفاس، لكنه سيفقد شعبيته بعد فرضه الجبايات الثقيلة على القبائل التي ستفرض حصارا على مدينة فاس، آنذاك ستدعوا القوات الفرنسية مولاي عبد الحفيظ للتخلص من المدني و تعويضه بالمقري الذي كان قبل ذلك وزيرا للمالية. و هو التحول الذي سيستغله المتوكي ما بين ماي 1911 و يونيو 1912 لتعزيز نفوذه بالجنوب المغربي.
لكن كلاوة ستعود لاعتلاء المنصة بعد حماية الكلاوي لعدد من الفرنسيين المقيمين بمراكش سنة 1912 أي إبان غزوها من طرف الجيوش السوسية و الصحراوية بقيادة احمد الهيبة، ليتم تأكيد سلطات المدني، و سيعوض مانجان التهامي في وظيفة الباشا و في المقابل سيسند له قيادة قبائل الكيش، سيستولي الباشا التهامي آنذاك على ثروات باشا القصبة السابق سي مسعود البيض، و سيستمر التهامي في دعم القوات الفرنسية إلى غاية احتلال تارودانت سنة 1913.
و سيساهم موقف كلاوة بعد الإعلان عن بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914 في تسهيل وضع سياسة القواد الكبار كما أرادها ليوطي لحمايته من الهيبة الصحراوي المستمر تهديده للوجود الفرنسي بالجنوب. فكان المدني يراقب الشرق و التهامي الجنوب، و كان دعم القواد الكبار ضروريا بالجنوب نظرا لضعف الحضور الفرنسي، إضافة إلى ما تسببت فيه الحرب العالمية الأولى من سحب جزء مهم من القوات الفرنسية من المغرب. و قد رأينا في السابق مع جون جنتر رد فعل التهامي الكلاوي عند تساؤل ليوطي عن طبيعة الوضع بالجنوب إذا ما سحبت فرنسا قواتها العسكرية منه.
سيفارق المدني الروح يوم 30 يوليوز 1918 بعد تعيينه للتهامي الكلاوي خلفا له، و سيأتي ظهير 29 غشت 1918 ليُعين التهامي قائدا على كل القبائل التي كانت خاضعة من قبل لأخيه المدني. لتمتد بذلك سلطته على نحو 300 ألف نسمة، و هو الرقم الذي ساقه جون جنتر لا لعدد سكان قيادة التهامي لكن جعله مقابلا لعدد أفراد جيشه الخاص، فقد رفع عدد السكان الخاضعين للكلاوي إلى حدود مليون نسمة، و هو تناقض ظاهر بين كوي دولانوي و جون جنتر.
ستتحسن حياة الباشا بفضل العائدات المتواصلة الآتية من القبائل، و في سنة 1924 سيسمح إحصاء لمنطقة نفوذ الكندافي باقتراح من الجنرال دوغان لفرنسا بالتحكم في الجزء المركزي من الأطلس الكبير، و هو ما سيشكل إنذارا للتهامي الكلاوي، و مع ذلك فالجنرال دوغان الذي كان يطمح لاستبدال الباشا بشخصية أخرى لديها صلات مع المخزن المركزي أي مع السلطان، سيؤجل قراره بعد استشارة رئيس المكتب الجهوي الكومندان اورتليب، و هو ما زكّاه المارشال ليوطي بنفسه.
و رغم العراقيل التي وضعها التهامي الكلاوي في وجه التدخل و الاستقرار العسكري الفرنسي ببلاد كلاوة، فقد حاز أوسمة عسكرية و استمر يزيد في سلطته من خلال استغلال القبائل، و لمواجهة الصوائر المتزايدة المتمثلة في ملعب الغولف الذي كان يكلفه 400 ألف فرنك سنويا، إضافة إلى زيارته خلال كل صيف لفرنسا و انجلترا لعدة أسابيع و عدم رجوعه إلا بعد استنزاف كل الأموال التي حملها معه، و رغم المداخيل المنتظمة و المهمة التي كان يستفيد منها كالفرد، و العائدات المنجمية و العقارية…لم يجد حلا إلا اللجوء إلى المخالفات و خرق القانون، فضاعف أعمال السخرة و الضرائب و الغرامات، حتى اضطر الفلاحون إلى بيع منتوجاتهم الزراعية قبل وصول أوان قطفها لتسديد الضرائب المتراكمة عليهم، و هي تدابير تطابق نهبا حقيقيا للقبائل، و رغم ذلك فالباشا كان مدينا للدولة بـ 75 مليون، و وصلت قيمة ديونه إلى 84 مليون، معادلة بذلك نصف ثروته المقدرة آنذاك بـ 180 مليون فرنك.
و لمواجهة هذه الضغوط المالية ابتكر الكلاوي وسائل أخرى لضمان السيولة المالية، فقد نشرت “حركة الحرية داخل المستعمرات” عند نهاية 1955 بلندن التقرير التالي : ” تحكُم أرباح اقتصادية مهمة تجارة دور الدعارة و المواخير بشمال إفريقيا، لان هذه الأرباح مرتبطة بقواد سياسيين محليين، أو بسياسيين فرنسيين في المغرب. و يحصل الكلاوي بشكل خاص على ضريبة قدرها 100 فرنك عن كل يوم لكل عاهرة من أصل ستة آلاف عاهرة مسجلة و خاضعة لقضائه، إضافة إلى ذلك يمثل الباشا مفتاح قبو جمعية تستغل حريما من النوع الممتاز يسمى السفينكس أي أبو الهول بفضالة…انه عارُ فرنسا بشمال إفريقيا الفرنسية.
و كان الباشا معتمدا على دعم أوساط رجال الأعمال المؤثرة بشكل كبير، فقد كان على علاقة بجون إبينا مؤسس “أونا” O.N.A أقوى هولدينغ مناجم و مواصلات، و بفضل الكلاوي سيحصل إبينا على أغلبية الاقطاعات المنجمية. كان ليوطي قد رحل لما قام الكلاوي ما بين 1928 و 1929 بتوقيع عدة عقود مع القبائل لتمرير حق استغلال المناجم لهولدينغ اونا الذي لم تقل نسبة مساهمته في أسهمها عن 20%.
و قد قدرت مساهماته في المشاريع الصناعية بملياري فرنك سنة 1956، و أدار بشكل مباشر أو عبر وساطة أبنائه طيلة 44 سنة ساكنة قدر عددها سنة 1955 بأزيد من مليون نسمة.
لقد كان الوضع بمراكش خطيرا، فالسمعة السيئة للباشا و البياز يده اليمنى، سمحت بنمو و انتشار الدعاية الوطنية المعادية لفرنسا و للمتعاونين معها، و قد دلت الحوادث التي اندلعت في سنة 1937 خلال زيارة راماديي Ramadier لمراكش على أن الخوف الذي كان يغديه الباشا و البياز لم يكن كافيا لضمان الاستقرار و النظام”.
إن الأوصاف و المعلومات التي أوردها كوي دولانوي حول الباشا التهامي الكلاوي لم تجد مكانا لها في كتاب جون جنتر، فهذا الأخير لم يتحدث عن ثروة الكلاوي و مصادرها خاصة ما تعلق باستغلال شبكة دعارة واسعة و اضطهاد القبائل و فرض أعمال السخرة عليها…و هذا دليل يقوم أولا على أن جون جنتر لم يبحث عن الحقيقة بقدر ما انتظر التوصل من المحيطين بالكلاوي و منه أيضا على المعلومات التي يرتضون نشرها في كتابه حول إفريقيا، فكان مجرد ناطق باسم الكلاوي دون أن يتدخل للكشف عن الوجه الآخر لهذا القائد.
أما كوي دولانوي فقد نشر كتابه سنة 1993 أي بعد وفاة الكلاوي بمدة طويلة سمحت باتخاذ مسافة مقبولة و ممكنة بينه و بين الأحداث التي يروي أخبارها. كما تمكن من الاطلاع على تقارير الاستعلامات الفرنسية التي كانت المرآة الحقيقية و لو بشكل نسبي لممارسات الكلاوي.
و يتأكد الفرق بين الكتابين حينما نرى الكلاوي لدى جنتر كمسلم تقي يحرص على أداء الفرائض، في حين نراه لدى دولانوي كرجل شره و فاقد للحس الإنساني و مستغل لأقصى درجة الرجال و النساء لقضاء مآربه الشخصية.
نختم بالقول أن الذاكرة الشعبية بالحوز أعلت من شأن شخصية الكلاوي، لتجعلها في أبعادها شبيهة بالكائنات الميثولوجية الكبرى، كسيدي رحال و السلطان الأكحل، و تجدر هنا حسب بول باسكون دراسة الملامح البسيكوسوسيولوجية لهذه الأسطورة.
إن دراسة الظاهرة ” الكلاوية ” يجب أن تكون الأساس ضمن دراسة الحوز، و مع ذلك لا يمكن البدء بشكل فعلي في البحث عن مصير هذه الأسرة، ما دامت الوثائق المتعلقة بها لم تصبح في متناول العموم، و حتى يتم انجاز بحث علمي في الموضوع، لابد من انتظار الإفراج عن الأرشيفات العائلية للأسرة التي تم حجزها وقت انهيارها، و القدرة على نقد التقارير و الوثائق الفرنسية المؤلفة زمن الحماية. و هنا نتساءل عن دور مؤسسة أرشيف المغرب في الكشف عن جوانب جديدة من حياة الباشا الكلاوي من خلال الكتابات الأجنبية، إضافة إلى الخزانة الحسنية بالرباط التي تختزن العديد من مراسلات الباشا الكلاوي دون أن تمكن الباحثين من الاطلاع عليها لحساسيتها.