القضاء والاعلام: الصحافة في قفص الاتهام
جمال المحافظ *
لا يمكن المجادلة في أهمية فتح نقاش عمومي بواسطة التلفزيون حول العلاقة بين القضاء والاعلام وهو موضوع يكتسى راهنية، لارتباطه بسلطتين حيويتين، تتقاسمان نظريا عددا من المبادئ المشتركة، أبرزها الاستقلالية والحياد والتجرد والبحث والكشف عن الحقيقة.
وإذا كان القضاء والاعلام وفق هذا التصور، شريكان في حماية الحريات والحقوق وتكريس مبادئ المساواة والانصاف وحقوق الانسان وتعزيز الخيار الديمقراطي والشفافية والحكامة، فإن العلاقة بين السلطة القضائية والسلطة الرابعة، مع ذلك تتميز بسيادة علاقات توتر، ربما يرجع جانبا من ذلك ” لعدم الفهم” بين القضاء الجالس والقضاء الواقف وصاحبة الجلالة، الصحافة رغم القواسم المشتركة التي أوردناها سابقا .
مناسبة هذا الحديث، هو مبادرة احدى القنوات التلفزية المغربية شمال البلاد، بطرح هذا النقاش من خلال التساؤل حول اشكالية ما مدى تأثر القضاء بتفاعل الرأي العام مع القضايا المعروضة؟ التي ساهم في الاجابة عنها قاض ومحامي ونشطته صحافية مشهود لها بالكفاءة والاقتدار، كالبت على مدار المدة التي استغرقها البرنامج، بأن لا يحول الضيفين الحلقة الي ” محاكمة للإعلام” بهدف ” اخراج الحوار من أزمته” رغم غياب احد أطراف المعادلة أي الصحفي، لكن هذه المحاولات ظلت بدون جدوى.
لماذا ظل الحوار بين سلطتي القضاء والاعلام غائبا في هذا البرنامج ؟ أسارع الى القول، أن ذلك يعود غياب صوت الاعلام في حين اقتصر الحضور القضاء ممثلا في أحد وكلاء الملك ومحامي الذي أصلا جزء من أسرة القضاء، مما أخل بمبدأ الرأي والرأي الآخر، مما يجعلنا نقترح عنوان لهذه الحلقة انطلاقا من هذه المعطيات بشعار آخر هو ” الصحافة في قفص الاتهام”.
فقد أجمع المشاركان على أن من واجب الاعلام أن ” يكون مساعدا للقضاء”، وأن لا يستعمل ” أداة لتهييج الرأي العام”، وفي المقابل فالقضاء إعلام ملتزم بقواعد ” التجرد والاستقامة والموضوعية، و ضمان حقوق الافراد، وقرينة البراءة، وضمان المحاكمة العادلة” .
وإذا ما انتقلنا الى التساؤل حول مدى تأثير ما يروج في وسائل الاعلام على سير العدالة، وما يمكن أن يكون له من انعكاس على تكوين قناعة القاضي بخصوص القضايا المطروحة عليه، وهو الموضوع الذى تم تناوله بتطويل، من خلال الاقرار بأن هذا الأمر يختلف من قاض الى آخر، اعتبارات منها شخصية القاضي ومستوى تكوينه وثقافته وتجرده ونزاهته واستقلاليته.
فلحظات الصراع والتوتر بين القضاء والاعلام، أطهرت أن هناك حاجة ماسة لتحقيق التكامل والتعاون بين الطرفين، العمل على تجسير العلاقة بينها، وذلك بالبحث عن السبل الكفيلة بإزالة “سوء الفهم الكبير” منها خلق فضاءات التواصل لتقريب وجهات النظر، يرتكز على قاعدة الاحترام المتبادل، كل من موقعه، والتزاماته اتجاه الرأي العام، وهذا ما سيساهم ولاشك في بناء الثقة المفقودة حاليا بين سلطة القضاء وسلطة الاعلام، مما سيمكن من تعزيز صدقية الأحكام القضائية، وفي المقابل المساهمة في تطوير التغطية الصحفية وجعلها تتفادى أساليب الاثارة بالتجاوب مع حاجيات الجمهور والالتزام بقواعد أخلاقيات المهنة.
ويتطلب هذا الأمر أيضا الوعي والايمان بالاختلاف بين طبيعة القضاء والاعلام، باعتبار أن من خاصيات الأول، الالتزام بقواعد السرية والتحفظ، في الوقت الذى تعد العمومية والحرية الرئة التي يتنفس بها الاعلام، سلطة الرقابة المجتمعية على كافة السلط، بما فيها القضاء، ودزر الصحافة في الكشف عن الحقيقة والتقصي وتعميم الاخبار والمعطيات التي تكون في حوزة الصحفي التي لا تتعارض مع ما يخوله له القانون.
وإذا كان القضاء يخضع لقواعد التكتم لحماية سرية الابحاث والتحقيقات، وذلك احتراما لقرينة البراءة، حتى يتمكن القاضي من تكوين قناعته، بغض النظر عن عامل الوقت للبت في قضايا المعروضة عليه، فإن الاعلام يشتغل وفق مقاربات مغايرة على، حيث يخضع عمل للسرعة واتخاذ المبادرة في وقتها، تحقيقا للسبق الصحفي، الذى يعد من بين أبرز شروط ممارسة الصحافة والاعلام الذى تعاظم دوره بفضل التكنولوجيا الحديثة والثورة الرقمية.
ومن أجل رفع “سوء الفهم” بين القضاء والاعلام، يقتضى إدراج مادة الإعلام في المقررات الدراسية لمعاهد تكوين القضاة، وتوسيع دائرة الغرف المتخصصة بالمحاكم حول القضايا المرتبطة بالصحافة والاعلام مع الارتقاء بمستوى التواصل مع وسائل الاعلام وتوفير المعلومات القانونية، من أجل رفع التحديات التي تواجه القضاء منها ضمان استقلاليته ونزاهته، والابتعاد عن أي تأثير وتسهيل ولوج أبواب القانون والعدالة، عبر تحديث التشريعات لتواكب مستجدات العصر، وملاءمتها للالتزامات الدولية، خاصة منها ذات الصلة بحقوق الإنسان، مع تيسير البت داخل أجل معقول، وضمان الأمن القضائي اللازم لتعزيز الثقة بالقضاء.
كما يتطلب الأمر أيضا تطوير العدالة الجنائية بدراسة الصيغ التي تجعلها تحقق الملاءمة المثلى بين واجب صيانة الحقوق والحريات، وبين هاجس الحفاظ على قيم وركائز المجتمع وتطوير الإدارة القضائية، وذلك تفعيلا لعدد من التوصيات والأفكار والقرارات منها ما جاء في الرسالة الملكية إلى المشاركين في المؤتمر الدولي الأول للعدالة حول موضوع ” استقلال السلطة القضائية بين ضمان حقوق المتقاضين واحترام قواعد سير العدالة”، الذي احتضنت أشغاله مدينة مراكش في ثاني أبريل الجاري.
فمستوى الاعلام، كما القضاء، أصبح محرارا ومقياسا يقاس به مستوى تقدم وتخلف الدول، وهو ما كان يتطلب من الانفتاح على آراء الاعلاميين مهنة باشرك أحدهم في البرنامج التلفزيوني السالف الذكر، وذلك تحققا للتوازن، ل” اخراج الحوار من أزمته ” عبر ” حوار جرئ عميق ومسؤول”، كما تردد في بداية البرنامج الذى يستحق رغم ذلك التشجيع والتنويه والتطوير أيضا.
*كاتب صحفي باحث في شؤون الإعلام