جلالي شبيه، أستاذ التعليم العالي بالقاضي عياض يضع علاقة الصحافة والقضاء تحت مجهر التحليل
الكاتب:
جلالي شبيه -مراكش 24
يقول المثل العربي:“ يظل الإنسان عالما ما دام يطلب العلم، ولما يقول علمت يضل”.
في الواقع موضوع الصحافة والقضاء هو موضوع اجتماعي محوري شائك٬ تتفرع عنه عدة فروع كقانون الصحافة وأخلاقيات المهنة٬ استقلالية القضاء ونزاهته٬ حق التعبير وحقوق الإنسان٬ الانتقال الديمقراطي ودولة الحق والقانون٠ جمعت كل هذه الفروع في عنوان واحد عبرت عنه كالتالي: الصحافة والقضاء، تفكير في موضوع مؤشر، موضوع بارومتر لحرية التعبير وحقوق الإنسان٬ لاستقلالية القضاء والمواضيع المحرمة٬ للانتقالية الديمقراطية ودولة الحق والقانون·
Presse et justice : réflexions sur un thème baromètre de la liberté d’expression et des droits de l’Homme, de l’indépendance de la justice et des sujets tabous, de la transition démocratique et de l’Etat de droit
سأحاول معالجة هذه التشعبات في خمسة محطات :
المحطة الأولى: بين الحق والقانون
المحطة الثانية: وضعية حرية التعبير
المحطة الثالثة: نسبة استقلالية القضاء
المحطة الرابعة: طبيعة المواضيع المحرمة
المحطة الخامسة والأخيرة: درجة الانتقال الديمقراطي ودولة الحق والقانون
المحطة الأولى: بين الحق والقانون
أكيد أن الإفراط مضر٬ مثله مثل النقص أو القلة٬ في كل شيء٬ في الإنفاق٬ في السلطة٬ في الأكل٬ في التعبير، والاتزان حكمة· نقول عادة، طفح الكيل، كلما أصبحت الأمور لا تطاق٠ ونقول في الطب :”ليس وضع الجرعة هو الذي يقتل بل ضوزجتها” وتقول الحكمة القانونية في القانون اللاتيني وذلك منذ أكثر من 2150 سنة مع مفكرين وفلاسفة كبار من أمثال سيبيون ﺇميليان (185-129)، تيرانس (190-159)، سيسيرون (106-43)، ڤيرجيل (70-19)، وجوستينيان، فيما بعد، (482 -565)، في الحق، حق الملكية، في القانون وفي القضاء·
“Omnia petita”, le devoir du juge est de statuer sur toute la demande, rien que la demande ; «”Summum jus, summa injuria”, Comble du droit, comble de l’injustice ; “Usus, fructus, abusus” droit réel, temporaire ou viager, regroupant le droit d’user de sa propriété, de la faire fructifier ou d’en abuser, néanmoins, dans les limites de la légalité.
بمعنى أن لأي شخص كامل التصرف في حقه أو في سلطته أو في مهامه في حدود شرعية؛ لكن إذا مورس هذا الحق بإفراط، إذا مورس هذا القانون بصلابة٬ يؤدي إلى الظلم٬ إلى الإجحاف٬ يؤدي إلى التعسف في ممارسة القانون٬ في استعمال السلطة؛ ونقول كذلك، متصلب كالعدالة، لتعقيداتها الإجرائية والمسطرية· وإذا مورس الحق بطريقة صلبة٬ يؤدي كذلك إلى التعسف في استعمال الحق٬ يسيء إلى الغير٬ يلحق الضرر به· إذا أفرط الشخص في استعمال حقه أضر بغيره٠ تعتبر إساءة لاستعمال الحق أو السلطة أو القانون كل انحراف أو تحويل للغاية الاجتماعية الأصلية التي وضع هذا الحق أو هذا القانون أو السلطة من أجلها· قررالقضاء المقارن منذ زمن طويل أن ممارسة الحق قد تكون تعسفية تورط مسؤولية مرتكبها كلما أساءت للغير وسببت له ضررا· حتى وﺇن كانت الدولة، نفسها، مصدر هذا الضرر (محكمة التنازع الفرنسية في قضية بلا نكو بتاريخ 8 فبراير 1873؛ مجلس الدولة الفرنسي في قضية اطروتيي بتاريخ 13 ديسمبر1957؛ محكمة النقض الفرنسية في قضية جيري بتاريخ 23 نونبر 1956)· وفي إطار القضاء المغربي، فان مباشرة الحق لا يعتبر تعسفا فيه إلا إذا مورس بهدف إلحاق ضرر بالغير أو باستخفاف فادح (قرار مجلس الأعلى عدد 270 بتاريخ 4 مايو 1965، بشان التعسف في استعمال الحق في إطار النظام المالي لزوجين فرنسيين)؛ كما أن القرارات الإدارية المتخذة في حق الخواص والمشوبة باللاشرعية تكون لاغية وتلزم مسؤولية الإدارة (قرار مجلس الأعلى عدد 158 في قضية ماﯖرو بتاريخ 21 ديسمبر1961)؛ وحيث ﺇن الغاية المتوخاة من الطلب، بشأن الحق في الإعلام ونشرالخبر، المقدم للنيابة العامة قد تحققت بعد حصول الطالبة على الوصل الذي يخولها إصدار الجريدتين، فلم يعد هناك مجال لمناقشة عناصر الاعتداء المادي (قرار مجلس الأعلى عدد 971 المؤرخ في 26 يوليوز2001).
إذن في كل هذه الحالات:إساءة استعمال الحق، العيني أو الشخصي، التعسف في استعمال القانون أوفي استعمال السلطة، كلها تؤدي إلى الضرر٬ تلحق الضرر بالغير ويمكن متابعة مرتكبه قضاء٬ لجبر الضرر؛ سواء أكان هذا الضرر ماديا، كالتعويض٬ أو إرجاع المسروق٬ أو إعادة الإدماج، أو معنويا، كرد الاعتبار٬ أو حفظ الذاكرة٬ أو التوبة والندم بالنسبة للمذنب، أو كلاهما معا· والسلوكات التي قد تنتج عنها أعمالا تعسفية، تختلف باختلاف مصادرها، فقد يكون مصدرها، فضلا عن الخواص أو المقاولات، الإدارة أو الصحافة أو القضاء· فالإجراءات الانتقامية والمساس بالحق النقابي التي مورست من طرف إدارة بعض الصحف في حق صحافيين وصحافيات عاملين بنفس الجرائد يعد تعسفا في السلطة وتجاوزا للقانون وانتهاكا للحقوق (النقابة الوطنية للصحافة المغربية، 23 غشت 2011). كما أن حق استعمال الطعن بالاستئناف (ف 134 ق.م.م.)، وتجريح القضاة (ف 295 ق.م.م.)، وتعرض الغير الخارج عن الخصومة (ف 303 ق.م.م.)، والطعن بالنقض أمام المجلس الأعلى ضد الأحكام الانتهائية التي تصدرها المحاكم، والطعون المقدمة ضد الأعمال والقرارات التي يتجاوز فيها القضاة سلطاتهم، ومخاصمة القضاة والمحاكم، والإحالة من أجل التشكك المشروع (ف 353 و 391 و 392 ق.م.م)، وإعادة النظر (ف 379 و 402 ق.م.م.)، كل هذه المعطيات والمقتضيات المضمنة في قانون المسطرة المدنية تعتبر بمثابة حواجز تضمن حقوق المتقاضين وتحد من احتمال وقوع تعسف أو إساءة استعمال السلطة القضائية· ناهيك على أن القانون ذاته قد يكون مجحفا؛ وهو ما يشير له الدستور في فصله 133عندما يقول: “تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور”.
المحطة الثانية: وضعية حرية التعبير
وضعية حرية التعبير تقتضي أولا معرفة مجال هذه الحرية، ثانيا حرية الصحافة، وثالثا حرية التعبير عند الخواص·
في مجال حرية التعبير بصفة عامة:
قالت السيدة جان ماري رولان هذه العبارة لحظة إعدامها أثناء الثورة الفرنسية سنة 1793 : “آه يا حرية، كم من جريمة ارتكبت باسمك”؛ صحيح٬ إن مفهوم الحرية سهل التكييف ومجاها ليس مطلقا بل يبقى مرتبطا أشد الارتباط بحقوق الآخرين ولذلك نقول عادة: ״حرية البعض تنتهي حيث تبدأ حرية البعض الأخر״. نعم، إن القانون يضمن لجميع المواطنين حرية الفكر والرأي والتعبير بكل أشكالها (الفصل 25 من الدستور الحالي). لكن، لا يمكن لهذه الحرية أن تتجاوز نطاق نشاطها وأن تضر بالغير. لأن القانون يضمن حق صورة الشخص وحق ذاته وشخصه٬ والحق في حياته الخاصة ضد النقد الشخصي أو الإشاعات أو الإخبار المغلوط أو نشر معطيات خاطئة أو أقوال كاذبة٬ أو الإهانة أو الشتم أو التشهير. يضمن كذلك القانون الحق في الشرف٬ في الاعتبار وفي الكرامة، الحق ضد البلاغات أو المقالات الاستفزازية أو الفظة الخشنة؛ والتي تحث أو تحرض على الحقد أو على الكراهية أو على العنصرية؛ أو التي تستحضر الممارسات الغير الشرعية، وكل ما يخالف القانون الجاري به العمل٠ يضمن القانون كذلك حرية ممارسة الشؤون الدينية، والحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتفافية والبيئية (الفصل 19 من الدستور الحالي)، وكذا حق الملكية، وحق الإضراب (الفصل29 من الدستور)؛ يقول المثل الألماني: “من يرفع نبرة صوته أكثر من اللازم قد لا ينهي الأغنية”.
في مجال حرية الصحافة
هل يمكن للصحافي في ممارسة مهنته أن يكون متقاضيا، أي خاضعا للقضاء، كباقي المتقاضين ؟
صدر في صحيفة نوﭬيل أوبصرﭬتور يوم 29 نونبر 1990 سبر أو استقصاء الرأي العام، فهو يضع مهنة الصحافة من بين المهن التي ليست في مستوى مسؤوليتها لما تسقط فيه من هفوات أو انحرافات· ونلاحظ، بالنسبة للمغرب، أن العديد من الصحف لازالت تعيش من ترديد الاتهامات والادعاءات في حق مواطنين ومسؤولين في قطاعات مختلفة بدون إثبات، بل تنشر معطيات لا سند لها، واستجوابات افتراضية، وتعليقات عن صور خارج سياقها، وكتابات سوقية تستعمل الكلام المنحط ولغة الإثارة قصد الرفع من مبيعاتها (النقابة الوطنية للصحافة المغربية، بلاغ بخصوص ما نشرته يومية “الصحيفة” في عددها ليوم 30 يناير 2007). وتطرق رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، في تقرير بخصوص حرية الصحافة في المغرب، للإشكاليات التي تعاني منها الصحافة اليوم، وخاصة تلك التي تتعلق بالتمويلات التي يتلقاها البعض، سواء بطريقة مباشرة أو عن طريق توزيع حصص الإشهار، وﺇن كان الجسم الصحافي المغربي، حسب قوله، في أغلبيته الساحقة “سليم ونظيف، إلا من بعض الطفيليات التي تستعمل الصحافة للارتزاق” (رد وتوضيح على ما نشر مدير الجريدة الأولى في عموده بعدد يوم الأربعاء 20 مايو 2009). وحسب تقرير تنمية المرأة العربية حول “المرأة العربية والإعلام: دراسة تحليلية للبحوث الصادرة بين 1995 و2005″ أزيد من 78 في المائة مما يقدم عن المرأة في وسائل الإعلام هو صورة سلبية تقليدية تتصل بمداركها العقلية وقدراتها الذهنية وأخلاقها وبجسدها وبأدوارها المختلفة· والصحافة مثل القضاء هي مرفق عام، مرفق إخباري-إعلامي، وقد تكون لها علاقة وطيدة بالقضاء عندما تتناول قضايا وتعليقات قضائية أو يكون ضمن الصحافيين إخباريون قضائيون.
Chroniqueurs judiciaires
لكن ليس من حقها أن تحل محل القضاء، لكل قطاع اختصاصاته وميدان عمله· والقانون يؤكد هذا صراحة، عندما يقول، من خلال الفصل 119 من الدستور الجديد: “يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا، إلى أن تثبت ﺇدانته بمقرر قضائي، مكتسب لقوة الشيء المقضي به”· إن حرية الصحافة مقيدة بحقوق الآخرين٬ ولمهنة الصحافة قيود أخلاقياتها· وبإمكان المجلس الوطني للصحافة، اتخاذ التدابير التأديبية اللازمة في هذا الباب وقراراته تكون قابلة للطعن أمام المحاكم الإدارية ﴿حديث مع وزير الاتصال السابق نبيل بن عبد الله٬ فبراير 2007 ﴾٠ وتتولى الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، حسب الفصل 165 من الدستور، “السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر، والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري” وﺇن كانت هذه الهيئة، حسب النقابة في تصريح 3 مايو 2007، “يغلب على عملها الطابع المنغلق، القريب كثيرا من الدوائر الرسمية”· والصحافة أشبه بالأشخاص، فيها المتزن وفيها المفرط، فيها الساخر وفيها العاقل، فيها الرصين وفيها المندفع، فيها الذاتي وفيها الموضوعي. والصحافة سياسة، لها خطا إيديولوجيا معينا، لها منحى سياسيا معروفا، تساند هذا الاتجاه، هذا الرأي أو ذاك، أو تنتقده، وقد تكون محايدة أحيانا أخرى، تتوخى المعلومة بكل موضوعية؛ والصافة اقتصاد كذلك، مقاولة قائمة بذاتها، لها مدير وأطر وعمال، ولها منتوج تحاول، كثيرا أو قليلا، ترويجه؛ تحاول الزيادة من المستهلكين واكتساح السوق أكثر فأكثر؛ وتكون متواجدة في السوق مادامت تحصل على ربح٬ فإذا غاب هذا الربح غابت هي كذلك· بحيث لا يمكن لأية مقاولة أن تدير شؤونها بالخسارة، بل تقدم ميزانيتها وتعترف بإفلاسها.
من حقنا أن نتساءل ما هي المواضيع الأولوية في المجتمع المغربي حاليا ؟ و ما هي أفضل طريقة لمعالجة هذه المواضيع ؟
ومن حقنا كذلك أن نميز بين المواضيع الحساسة والمواضيع الجدالية، بين المواضيع المحدثة وقعا والمواضيع الأليمة اجتماعيا، وبين الطرق النزيهة والطرق العنيفة، والطرق التشهيرية، في معالجة المعلومة أو الخبر. ومن حقنا كذلك أن نميز بين الصحافة الإخبارية وصحافة الرأي، بين الصحافة السياسية والصحافة الاقتصادية، بين الصحافة المحدثة وقعا في النفوس والصحافة المحدثة وقعا في القلوب، بين الصحافة المقروءة والصحافة المسموعة أو المرئية، بين الصحافة التقليدية والصحافة الاليكترونية.
والصحافيون- مثل كل شريحة سوسيو-مهنية كيفما كانت٬ فهم متقاضون٬ يخضعون للقانون٬ وعلى هذا الأساس من الضروري تنظيم هذه المهنة بكيفية مستقلة، و بنائها على أسس ديمقراطية، وعلى قواعد قانونية وأخلاقية متعلقة بها (الفصل 28 من الدستور)؛ وبالتالي إعطائها نظام مقنن خاص بها٬ وإمكانية تدريس قانون الصحافة، وما يترتب عنه من حقوق وواجبات، في كليات الحقوق، وقطاع الصحافة في كليات الاقتصاد، وما يترتب عنه من خلال سوق المال ومصادر التمويل، توزيع حصص الإشهار والإعلانات· لأن الصحافة تتمتع، مبدئيا أو في دول أخرى أكثر ديمقراطية، بحقوق كثيرة ومن الضروري احترامها؛ نذكر من بينها خصوصا: الحق في الوصول إلى المعلومات، حرية الإخبار والإعلام، لأن للمواطن الحق في المعلومة، في الخبر وحق الاطلاع بالمواضيع الأولوية٬ بالمواضيع الحساسة وبالقضايا المصيرية، وبقضايا يومية أخرى، من طبيعة الحال، تشغل بال المواطن.
للصحافة كذلك حق البحث عن المعلومات والوصول إليها وجمعها ونشرها، حق جمع المعلومات والمعطيات الضرورية للقيام بأي تحقيق أو استقصاء أو كتابة أي مقال، وبالتالي حق سرية وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة (الفصل27 من الدستور). كما أن للصحافيين الحق في حماية مساعديهم وحماية منازلهم ومحلات عملهم أو مقرات جرائدهم ووسائل عملهم من التفتيش والحجز والمصادرة٠ ثم كذلك يجب التميز في إطار قانون الصحافة بين ثلاثة أنواع من القضايا المضرة أو المجحفة: قضايا صحافية أو جنح صحافية محضة كالتشهير والشتم أو القذف والسب أو الإخبار الكاذب، والقضايا الإجرامية أو الإرهابية والتي لا علاقة لها بالصحافة· اعتقلت في 2004 صحافية أمريكية جوديت ميلير بصحيفة نيويورك تايم لكونها رفضت تسليم مصادر مقالاتها؛ وفي 2005 عندما جاك شيراك٬ رئيس الدولة الفرنسية سابقا٬ وضع يده على كتف ملكة انجلترا صاحت كل الصحف البريطانية لا تمس٠
Toute la presse tabloïde britannique a crié au scandale « Hands off », n’y touchez pas !
وحجزت في 2007 جريدة إسبانية لكونها رسمت رسما هزليا واستعملته في الإشهار لولي العهد الاسباني وحريمته· وعانت كثيرا بعض الصحف المغربية بسبب خطها التحريري من الحجز والمصادرة أو بعض الصحفيين الدين تعرضوا بسبب خصوصية أسلوبهم، والمتميز في الكتابة والتعبير إلى اعتداءات مادية متكررة وملاحقات قضائية· وتعرض عدد من الصحافيين والصحافيات خلال تأدية واجبهم المهني إلى الاعتداء والضرب والشتم والتنكيل من طرف السلطات أو المنتخبين أو مافيات مختلفة (النقابة الوطنية للصحافة المغربية، تصريح 3 مايو 2007 واستنكار 12 أبريل 2008). لكن تبقى في النهاية، بالنسبة للصحافة بصفة عامة،الأجرئة القضائية، ورقابة القضاء، القضاء العادل والموضوعي، والرقابة الذاتية للصحافة، الرقابة المبنية على المهنية والمسؤولية وأخلاقيات المهنة، الحصن والفضيلة ضد بعض الهفوات أو المتاهات المحتملة التي قد تخص صحيفة معينة أو صحافيا معينا، أو أكثر. أما فيما يخص القانون، فالفصل 28 من الدستور الحالي ينص على ضمان حرية الصحافة وعدم تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية· ويؤكد على الحق في التعبير، ونشر الأخبار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة· لكن يظل السؤال مطروحا بشأن درجة تنزيل هذا القانون، تنزيلا سليما، على أرض الواقع؛ فالنية حسنة لكن هل سيتم تطبيقها ؟
وفي مجال حرية التعبير العادية أو حرية التعبير عند الخواص
إن هذا النوع من الحرية يهم أي شخص كيفما كان نوعه طبيعيا أو معنويا، نذكر على الخصوص٬ رجل السياسة٬ رجل الشارع٬ بلوﯖور أو الانتيرنوت٬ طاﯖور، أي الشخص الذي يخط أو يرسم على جدران العمارات٬ ولمينور أو القاصر٠
إذن سواء أكان رائدا سياسيا أو رجل الشارع أو بلوﯖور أو طاﯖور أو مينور أي قاصر، فمن حقه التعبير عن رأيه وعن أفكاره؛ لكن في نطاق ما تسمح به هذه الحرية وهذا الحق٬ أي حريته تنتهي، كما سبق ذكره، حيث تبدأ حرية الآخرين.
وسواء أكان السند أو الوسيلة، الساحة السياسية أو الشارع أو الانترنيت أو الحائط فلا تخلو كل هذه المجالات من تنظيم٬ فالحق من الواجب ضمانه والمسؤولية قائمة٠ فالقانون يمنع التشهير والسب والشتم والعنصرية والخلاعية وكل الخطابات الاستفزازية وكذلك نشر صور الغير بدون موافقتهم أو انتحال هوية الآخرين٬ أو إتلاف معلومات أو معطيات الغير. وإذا كان مقترف هذه الأعمال أو الممارسات اللاشرعية قاصرا، أي لا يبلغ عمره ثمان عشرة سنة شمسية، يتحمل وصيه الشرعي مسؤولية هذه المخالفات٠ يعد قذفا، حسب الفصل 44 من قانون الصحافة، ادعاء واقعة أو نسبها إلى شخص أو هيئة إذا كانت هذه الواقعة تمس شرف أو اعتبار الشخص أو الهيئة التي نسبت إليها. ويعد سبا، حسب نفس الفصل، كل تعبير شائن أو مشين أو عبارة تحقير حاطة من الكرامة أو قدح لا يتضمن نسبة أية واقعة معينة. وتختلف العقوبة، التي قد تكون حبسا أو غرامة، أو هما ما، باختلاف خطورة الأعمال المجرمة (الفصول من 44 إلى 53 من قانون الصحافة).
يتولى القاضي، حسب القانون (الفصل 117 من الدستور الجديد) حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم، وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون. ويضيف الفصل 122 من الدستور، يحق لكل من تضرر من خطﺇ قضائي الحصول على التعويض تتحمله الدولة.
المحطة الثالثة: نسبة استقلالية القضاء
إن الأحكام التي تصدرها المحاكم المغربية بجميع مستوياتها في إطار القضايا الصحافية وخصوصا تلك التي لا يتناسب تقل عقوبتها مع المخالفة المرتكبة راجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية أولها تمركزية السلطة وتشنجها، ثانيها صلابة القانون، وثالثها ضعف استقلال القضاء وبالتالي ضعف جرأته.
بشأن مركزية أو تمركزية السلطة
إن السلطة الممركزة أو تمركزية السلطة طريقة في التنظيم السياسي والإداري تقتضي جمع كل سلطات اتخاذ القرارات الرئيسية وكل وسائل العمل والمراقبة في يد سلطة مركزية واحدة٬ مع إمكانية تفويض التوقيعات أو الاختصاصات أساسية أو ثانوية إلى سلطات مركزية أقل قوة أو لاتمركزية٬ ﴿جهوية أو محلية﴾ خاضعة مباشرة إلى السلطة التمركزية٠وﺇن كان الدستور الحالي، في فصله الأول، ينص على أن التنظيم الترابي للمغرب تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة. لكن القانون، كما نعلم، بما فيه الدستور فهو في مثل هذه الحالة يندر للمستقبل لا يعاين الواقع. لان الواقع، كما ذكرت، لازال ممركزا. ويتجلى هذا بالخصوص من خلال الضغوطات التي قد تمارسها السلطة التنفيذية على القضاء، في بعض الحالات، وبالتالي التأويل التعسفي للقانون من طرف القضاء (النقابة الوطنية للصحافة المغربية، 3 مايو 2007).
بشأن صلابة القانون
من مميزات القانون المغربي صلابته، والقانون الصلب هو الذي لا يساير التحولات الاجتماعية، بل يتلكأ في الوراء؛ بحيث نجد حاليا الكثير من المقتضيات والمعطيات القانونية، سواء الدستورية أو القضائية ﴿التنظيم القضائي﴾ أو الجنائية أو المسطرية ﴿القانون الجنائي والمسطرة الجنائية) أو الصحافية (قانون الصحافة، بتاريخ 15 نونبر 1958، وفق آخر التعديلات) أو في مجال الحريات العامة، التي ظهرت وقننت في ظروف اجتماعية وسياسية مغايرة تماما لما هي عليه اليوم بكثير، ما تزال يجري بها العمل حاليا؛ رغم أنه منذ ذلك الحين تحولات اجتماعية عميقة حدثت و مياه كثيرة جرت من تحت القناطر٬ كما يقال.
ضعف استقلالية القضاء و جرأته أو ضعف سيادة القضاء وسلطته التقديرية
يقول المثل، ثلاثة أمور إذا حلت بمجتمع خربته: التعسف والجهل وقضاء غيرعدال. وأشد ما يؤخذ على النظام القضائي بصفة عامة مغربيا كان أم أجنبيا، وهذا رأي الكثير من الملاحظين المغاربة والأجانب، أن النظام القضائي، خصوصا في الدول واهنة النمو، ضعيف الاستقلال وكثير التحيز٬ بطيء وتعرقل سيره قيود إجرائية كثيرة٬ أو بيروقراطية· وغالبا ما يفتقر إلى المبادئ العامة، و تنقصه الإنسانية في معالجة بعض القضايا٬ وقلة التناسبية بين المخالفة والعقوبة، خصوصا في بعض القضايا الصحافية؛ لأنه بإمكان القضاء مثلا محاكمة جريدة معينة بسبب التشهير أو السب والقذف أو الإخبار الكاذب، لكن ليس من حقه تدمير هذه الصحيفة وقتلها، والزج بصحافيين في السجن. والقضاء لا يفلح دائما في رفع الحيف والبحث عن الحقيقة، خصوصا إذا كان لا يحترم هذه المبادئ الثلاثة، مبدأ تقصي الحقائق بموضوعية، ومبدأ احترام سرية التحقيق، ومبدأ احترام افتراض البراءة. لم يعد القضاء اليوم في الوضعية التي كان فيها البارحة، فالسلطة القضائية، يقول الدستور، في فصله 107، مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية. ويمنع كل تدخل، يضيف الفصل 109 من الدستور، في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي خلال ممارسة مهنته القضائية أي أوامر أو تعليمات، ولا يخضع لأي ضغط. وكلما اعتبر القاضي أن استقلاله مهددا، فمن واجبه أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
المحطة الرابعة: طبيعة المواضيع المحرمة أو المواضيع الحساسة، أو الطابوهات
يقول المثل: من التحريم ينشأ الإغراء· وكتب بوعلي يا سين مند السبعينات كتابا ينقد فيه النظام المصري والأنظمة العربية على السواء لتحريمها معالجة بعض المواضيع الاجتماعية الحساسة بعنوان “الثالوث المحرم” أي الدين والجنس والصراع الطبقي٠ والمواضيع الاجتماعية والسياسية والثقافية الحساسة لا تقتصر على المجتمعات العربية الإسلامية فقط بل تشمل المجتمعات الغربية كذلك٠ وتلاحظ الصحافة الغربية أن في هذه المجتمعات ثلاثة محرمات، الجنس والسلطة والمال٠أما وزيرا الاتصال والإعلاميات السابقين أكدا على أنه ليس هناك مواضيع محرمة في المغرب، ليس هناك مواضيع لا يمكن التعرض إليها. غير أن الفصل 77 من قانون الصحافة أعطى لوزير الداخلية سلطة الأمر، بقرار معلل، بالحجز لكل عدد من جريدة أو نشرة دورية تمس بالأمن العام، بالمؤسسة الملكية، بالدين الإسلامي أو بالوحدة الترابية؛ يكون هذا القرار قابلا للطعن أمام المحكمة الإدارية· يمكن ترتيب هذه المواضيع بدرجة حساسيتها كالتالي: الدين والسلطة والجنس والمال.
بالنسبة للدين
ينص الدستور الحالي، في فصله الثالث، على أن الإسلام دين الدولة٬ والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية. ومنطقيا، لا يقبل المس بالمعتقدات من طرف أشخاص لا ينتمون إلى نفس المعتقدات، مثل المس بالدين الإسلامي بالنسبة للمسيحي أو بالمسيحية بالنسبة للمسلم. وقانون الصحافة الحالي يحتفظ بعقوبة السجن في حالة التشهير بالدين (الفصل 41 من قانون الصحافة). ويجب أن تمارس حرية التعبير بشكل بناء يغني حرية الفكر والنقد والإبداع ويحترم كرامة الناس وأعراضهم ولا يستهتر بمشاعرهم وبمعتقداتهم الدينية.
بالنسبة للسلطة
وقد منعت من البث أو من النشر برامج أو مقالات تناولت قضايا سياسية أو عسكرية أو اجتماعية، كظاهرة الرشوة أو الفساد في قطاعات عديدة من بينها قطاع التعمير والبناء، والبناء العشوائي٬ أو الإخبار في يوتوب أو تسرب وثائق سرية.
بالنسبة للجنس
فان أي تمثلات، كتابة٬ رسما أو صورا، تكون ممنوعة بالنسبة للقاصر، ولا يمكن إقحامها هكذا على أنظار ترفضها كيفما كانت هذه الأنظار· كما أن هناك عادات و تصرفات وممارسات جنسية عمومية٬ علنية٬ تظهر عادية في مجتمعات معينة نظرا لهويتها الثقافية٬ ومحرمة في مجتمعات أخرى، لان هذه المجتمعات لها عادات وسلوك وثقافات مغايرة٬ و درجات وعيها ومستويات عيشها مختلفة؛ وهذا طبيعي٬ لان المجتمعات ليست متطابقة والثقافات لا تستنسخ٬ بل تختلف باختلاف شعوبها ﴿المهدي المنجرة٬ قيمة القيم٬ 2007)·
بالنسبة للمال
منعت كذلك من النشر أو عوقبت قضاء بالسجن، عبر صحافييها، وبغرامات باهظة، صحافة تناولت كيفية توزيع الثروة في البلاد أو التدبير السيئ لبعض المرافق العمومية أو نادت بتخليق الحياة العامة أو فضحت المتاجرة في أعمال محرمة٬ في أعمال غير شرعية٠ لا يعقل أبدا أن يحدث مثل هذا في دولة عريقة في الديمقراطية، مثلا.
المحطة الخامسة والأخيرة : درجة الانتقال الديمقراطي ومستوى دولة الحق والقانون
إن حرية التعبير، بالمفهوم الاعتدالي أي بدون غلو و لا إفراط، مبدأ ديمقراطي أساسي أصبح من المسلمات في القانون المقارن٬ وقد أثبتته إعلانات حقوق الإنسان ﴿إعلان حقوق الإنسان في 1789، ف 11﴾ والتشريعات الوطنية ﴿قانون الصحافة الفرنسي في 1881﴾ والقضاء الأوروبي ﴿قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 1999﴾ ودور القضاء حماية الأبرياء وانقاد الحرية بما فيها حرية الصحافة٠ ويؤخذ على قانون الصحافة المغربي الجديد كونه يحتفظ بعقوبات سالبة للحرية (الفصول 38 – 43) مع العلم أنه لا يلقى القبض على أحد ولا يعتقل ولا يعاقب لكونه عبر سلميا عن رأيه٠
والواقع أن هناك تكامل بين القضاء والصحافة٬ فمثلا منطقيا٬ إذا كان القضاء عاجزا في بعض الأحيان على معالجة الجوانب السياسية لبعض الملفات٬ فمن واجب الصحافة٬ بحكمها السلطة الرابعة، أن تسد هذه الثغرة، هذا العجز٠ﺇنه من غير المعقول، حسب بعض الملاحظين الأجانب، أن نقول بأن المغرب لا يتحول ولا يتطور٠بل نستطيع القول أن الوضعية أو الدرجة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يحتلها المغرب حاليا هي بالتأكيد درجة انتقالية وبالتالي تكون المقاربة الثنائية للأوضاع الراهنة، إما سلبية أو ايجابية غير صحيحة، لان الانتقالية الديمقراطية هي بطبيعتها درجة وسط بين السلبي والايجابي، بين الديمقراطي واللاديمقراطي٠
ولقد أصبحت الصحافة الآن في الدول الديمقراطية جهاز مراقبة بصفة غير رسمية مما تقوم به من نشر و بحث و تحقيق، ووجود صحافة مستقلة وحرة يعتبر جزءا أساسيا من الديمقراطية لكونها تمثل جهاز مراقبة على السلطات الحكومية بما فيها السلطة القضائية ﴿حوار على الانترنت عن العلاقة بين الصحافة والقضاء في يونيو2006﴾٠
إذن فالدولة الديمقراطية هي دولة يكون تنظيمها موضوعا تحت مراقبة الشعب وإشراكه في اتخاذ القرارات من خلال انتخابات تمثيلية وشفافية٬ ومجالس برلمانية مستقلة ومسؤولة٬ ولامركزية حقيقية للسلطة أو توزيع حقيقي للسلطة؛ وصحافة مستقلة، تمارس مهامها وفق أخلاق وآداب المهنة وفي إطار الالتزام بالتحري والتقصي من أجل القيام بدورها الإعلامي والتربوي في نشر ثقافة المواطنة وتأصيل الحقوق والواجبات ( ندوة دولية في ممارسة مهنة الصحافة : أي حماية قانونية ؟ بتاريخ 13 فبراير 2009، كلية الحقوق، مراكش). وتعتبر دولة الحق والقانون دولة تكون أنشطتها خاضعة لقواعد قانونية ثابتة ومؤكدة٬ من خلالها يمكن لكل مواطن، لكل متقاض المطالبة باحترام هذه القواعد وباحترام حقوقه، في إطار محاكمة عادلة، أمام قضاء نزيه ومستقل. ويعد ضمان استقلالية ونزاهة القضاء شرطا أساسيا لتقدم حرية الصحافة في البلاد· ناهيك على أن استمرار سياسة جنائية في متابعة الصحافيين والحكم بغرامات مالية كبيرة ضد بعض الصحف والصحافيين لا يخدم الديمقراطية في شيء (تقرير النقابة الوطنية للصحافة المغربية حول حرية الصحافة والإعلام بالمغرب لسنة 2006).
ومن بين العواقب والعلل الفاسدة والمنحرفة في المجتمعات منعدمة أو ضعيفة الديمقراطية أنها، كما يقول الكاتب الفرنسي ﭬولتير (القرن 18﴾ في معنى شبيه بهذا، ترفع من النفاق والوصولية وتحط من الكفاءات والجدية. ويقول المثل الصيني، وهذا ينطبق على الإدارة وعلى الديمقراطية وعلى الأنظمة السياسية على السواء، الباب الأفضل إغلاقا هو الباب الذي يمكن تركه مفتوحا.