عطوان: ثلاثة أسباب تدفع بالرئيس أردوغان للعودة إلى التحالف مع الأسد
عبد الباري عطوان
توحي التصريحات التي أدلى بها السيد بن علي يلدريم رئيس الوزراء التركي يوم (السبت) بحدوث انقلاب كبير في الموقف التركي تجاه سورية، جاء على أرضية “تفاهمات سرية” جرى التوصل إليها عبر الحليف الروسي، وقرب حدوث حوار علني بين الخصمين اللدودين، سواء في العاصمة السورية دمشق، أو نظيرتها التركية أنقرة.
السيد يلدريم فاجأنا مرة أخرى يوم السبت عندما قال كلاما “محرما” حتى قبل شهرين على الأقل، وتحدث عن الرئيس السوري بشار الأسد بلغة تتسم بالاحترام والتقدير لمكانته “ودوره البارز كأحد الفاعلين في النزاع″، وأكد “أن تركيا ترغب بالقيام بدور كبير في الأزمة السورية خلال الأشهر الستة المقبلة سعيا للتوصل إلى وقف حمام الدم، ومنع استفحال الوضع″.
من كان يصدق حتى قبل أيام معدودة أن يكيل السيد يلدريم كلمات الغزل هذه بالرئيس الأسد، وهو الذي عملت بلاده طوال السنوات الخمس الماضية، بكل ما أوتيت من قوة لإطاحة هذا الرئيس “الذي يذبح شعبه ويدمر بلاده؟”.
ننقل عن السيد يلدريم قوله حرفيا “شئنا أم أبينا (الرئيس) الأسد هو احد الفاعلين اليوم في النزاع في هذا البلد، ويمكن محاورته من أجل البدء في المرحلة الانتقالية التي نصت عليها نتائج اجتماعات مؤتمر جنيف”.
***
السياسة مصالح، والتراجع عن بعض المواقف الإستراتيجية، مثلما هو حال الحكومة التركية، لا يتم بالانقلاب بزاوية حادة، أو بمائة وثمانين درجة، وإنما بشكل تدريجي، وهذا ما فعله، ويفعله، السيد يلدريم منذ تولى رئاسة الوزراء خلفا للسيد احمد داوود أوغلو، ولا نستبعد أن تغيير الأخير جاء بهدف تقديمه “ككبش فداء”، وبما يبرر هذه الانعطافة الحادة في الموقف التركي تجاه الأزمة السورية.
يعود “الفضل” في هذا التغيير إلى ثلاثة أمور رئيسية متشابكة، ولا يمكن فصل بعضها عن بعض:
أولا: إسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود السورية التركية في تشرين ثاني (نوفمبر) الماضي، وهو الحادث الذي أوقع الرئيس رجب طيب أردوغان في مأزق حقيقي مع الجار الروسي، وفضح خذلان حلف الناتو له، الذي هو عضو فيه، وتخليه عنه.
الثاني: تفضيل الولايات المتحدة وأوروبا للأكراد عندما خيرها الرئيس اردوغان الاختيار بينه وبينهم، وأدرك حينها أن الغرب يسعى حثيثا لإقامة الدولة الكردية “التاريخية” على طول حدود بلاده الجنوبية مع سورية والعراق وإيران، وأدرك بعدها، وهو السياسي المحنك، انه يقف في المعسكر الخطأ، وان وحدة بلاده الترابية باتت مهددة أكثر من أي وقت مضى، ومن قبل الأصدقاء الأمريكان، وليس الخصوم السوريين والعراقيين والإيرانيين.
الثالث: الانقلاب العسكري الفاشل منتصف الشهر الماضي الذي فتح أعين الرئيس اردوغان وأركان حزبه إلى الأخطار الداخلية التي تهدد وحدة بلاده السياسية والجغرافية، بسبب إعطائه الأولوية للحرب في سورية.
السيد يلدريم الصديق الصدوق للرئيس أردوغان جرى تعيينه لإصلاح هذا الوضع، وتغيير المعادلة، والتمهيد لتغيير خريطة الحلفاء والأعداء، (أو غير الأصدقاء) بالنسبة إلى تركيا، ولذلك بدأ في اليوم الأول لتوليه المنصب، في العمل في هذا الاتجاه، وتحدث في خطابه الأول الذي شرح فيه برنامج حكومته للبرلمان عن عبثية الحرب في سورية، وضرورة اتباع سياسة “صفر مشاكل” مع الجيران.
لنترك الماضي، ونتحدث عن المستقبل، ونقول إن تركيا تمهد للدخول في حلف رباعي يضمها إلى جانب العراق وإيران وسورية، في مواجهة عدو مشترك هو الأكراد، الذين بدأت طموحاتهم الانفصالية تتضخم بدعم أمريكي أوروبي، وهذا يعني التخلي عن ارث السنوات الخمس الماضية، من تدخلات عسكرية في سورية، وحرب بالنيابة على أرضها لإسقاط نظامها، وبالتنسيق مع السعوديين والقطريين، وتبني المعارضة السورية وتسهيل عمليات تمويلها وتسليحها.
ما يعزز هذا الاستقراء من جانبنا، ثلاثة مؤشرات رئيسية لا بد من ذكرها والتوقف عندها:
الأول: قيام طائرات سلاح الجو السوري وللمرة الأولى منذ بداية الأزمة بقصف مواقع “الاسياش”، أو الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، وهو القصف الذي رحبت به على لسان السيد يلدريم، وقال معلقا “إن دمشق فهمت أن الأكراد أصبحوا يشكلون تهديدا لسورية أيضا”.
الثاني: تحريك الولايات المتحدة طائرات إلى منطقة الحسكة، حيث وقعت الاشتباكات بين قوات الجيش السوري ونظيرتها الكردية، التي تسيطر على ثلث المدينة، مما يعني أن أمريكا تلتزم بحماية الأكراد، ومستعدة لدخول حرب إذا استدعى الأمر.
الثالث: الفتور المتزايد في العلاقات الخليجية التركية، وبين الرياض وأنقرة، على وجه الخصوص، وسخونتها في المقابل بين إيران وتركيا المتمثلة في الزيارات المتبادلة بين المسؤولين في البلدين على مستوى وزراء الخارجية، وقريبا على مستوى الزعماء، بالنظر إلى زيارة الرئيس اردوغان القريبة إلى طهران.
***
السياسة لعبة ليست هينة، وربما يفيد التذكير بأن السياسيين الدهاة يلعبون بكل الأوراق المتاحة لديهم في سبيل خدمة بلدانهم ومصالحهم، وهذا ما فعله، ويفعله الساسة السوريين والإيرانيين والأتراك حاليا.
القيادة السورية لعبت بالورقة الكردية طوال السنوات الخمس الماضية، وتحالفت مع الأكراد في وجه المعارضة المدعومة أمريكيا وخليجيا، ونظيرتها التركية لعبت بورقة المعارضة السورية في المقابل والدول الخليجية الداعمة لها، والآن تجري عملية مقايضة بين هاتين القيادتين، الأولى، أي السورية، تتخلى عن الأكراد مقابل تخلي الثانية عن المعارضة السورية وداعميها، أو هكذا نفهمها نحن.
شهر العسل التركي مع المعارضة السورية ربما يكون اقترب من نهايته، وربما يمكن القول الشيء نفسه عن علاقاتها، أي المعارضة، بالولايات المتحدة الأمريكية التي لم تتردد مطلقا في تحريك طائرات لحماية حلفائها الأكراد، بينما لم تحرك “موتور سايكل” لحماية حلفائها في المعارضة السورية.
ونكتفي بهذا القدر في الوقت الراهن، ولنا عودة، بل أكثر من عودة، إلى هذا “الخذلان” الأمريكي لحلفائهم من العرب.