عندما يفقد المغاربة صوابهم بسبب “الترمضينة”
نعيمة السريدي
عادة ما يحمل شهر رمضان فرحة لدى كل شرائح المجتمع المغربي بعاداته وتقاليده الراسخة وطقوسه المميزة، لكن ورغم قدسية هذا الشهر فإنه لا يخلو من بعض السلوكات وردود الفعل التي تكدر صفوه، والتي تعرف عند المغاربة بـ”الترمضين”، فهذا المصطلح يكثر استعماله مع بداية كل رمضان، ويوجد حيث توجد العلاقات الإنسانية.
“صبحنا على الله.. آش بغيتي في هاد النهار..”، “خلي هاد النهار يدوز على خير”، “مالك كتشوف فيا”، مالك صايم بالجميل”، “بدل ساعة باخرى وإلا ما غيعجبك حال”، “جي من الاخر.. علاش كتقلب”، “واش غادي تقلب عليا ولا لا.. راني صايم”… هذه بعض الاقتباسات من الحوارات اليومية لمواقف عديدة أصبحت تعرف اختصارا عند المغاربة بــ”الترمضينة” وهي تتزامن مع حلول شهر رمضان من كل سنة، ونصادفها بشكل يومي في مختلف الأزقة والشوارع وفي أزمنة غير محددة على مدار اليوم، لكنها تبلغ ذروتها في الصباح وما بين صلاتي العصر والمغرب وتصبح أكثر حدة قبل دقائق معدودة من وقت الإفطار.
اكتظاظ وضوضاء وعصبية
الساعة تشير إلى الرابعة بعد الزوال، حركة غير عادية، تبدو المدينة وكأنها لفظت حشدا من الناس دفعة واحدة، هنا طوابير من الرجال والنساء، أغلبهم محملون بقفف وأكياس بلاستيكية ينتظرون وسيلة من وسائل النقل (حافلات وسيارات الأجرة الكبيرة والصغيرة)، وهناك طوابير متفرقة لمستقلي سيارات الأجرة الصغيرة، وهنالك ضجيج وضوضاء تصدره سيارات من هنا وهناك بسبب عرقلة حركة السير، فالكل يتسابق ويسارع الزمن خوفا من أن يدركه وقت الإفطار وهو لا يزال بالخارج.
قلق وتوتر و”ترمضين”
“وفوتني عليك أصحايبي.. قلت ليك ما عنديش، وقلب عليا وبلا ما تخليني نترمضن عليك.. راني مقطوع في هاد الساعة”، هكذا رد أحد الركاب بإحدى الحافلات على القابض بعد أن ألح عليه في طلب ثمن التذكرة، وبينما هما في أخذ ورد صعد إلى الحافلة خمسة من مراقبي التذاكر، وبعد مراقبة تذاكر جميع الركاب، تقدم أحدهم في اتجاه الشاب الذي رفض تأدية ثمن تذكرته ودخل معه في مشاداة كلامية قبل أن يلتحق به باقي المراقبين، فقال له أحدهم محاولا تهدئة الوضع وحل المشكل بالتي هي أحسن: “شوف خويا رمضان هادا والصهد وراك عارف كلشي طالع ليه الدم حسن ليك خلص ورقتك وخلينا نمشيو فحالنا”، لكن الشاب الرافض لتأدية ثمن التذكرة أو “السالت” استمر في رفضه وتعنته غير مبال بتهديدات المراقبين سيما بعد أن أخبروه بأن ثمن التذكرة هو 35 درهما وليس 4 دراهم. “واش أنا عندي حتى 4 دراهم.. ما بقا ليا غير نخلص ليكم 35 درهم. سيرو تقـ… واللي في جهدكم ديروه”، رد الشاب وهو يرغد ويزبد مما استفزهم وأصابهم بهستيريا الصراخ لأنهم على ما يبدو كانوا “مرمضنين” أكثر منه، فانقض عليه أحدهم وانهال عليه بالضرب والسب والشتم ليطلق “السالت” هو الآخر العنان لما جادت به “ترمضينته” من كلام فاحش ونابي، فسدد له مراقب آخر ضربة مدوية في اتجاه فمه مباشرة وقال له: “باش نوريك تخسار الهضرة والضسارة كيدايرا”، فانطلقت داخل الحافلة تعليقات بين مؤيد ومعارض، فهذا يقول: “الدري ما عندوش الفلوس آشنو بغاوه يدير.. واش يمشي يسرق”، وذاك يقول: “الكونترولات ما تيديرو غير خدمتهم ما عليهم والو”، وذلك يقول: “الدري إلا معاندوش الفلوس ما يركبش.. ضسارة هادي”، والآخر يقول: “الكونترولات ديما ضاسرين وعاجبهم راسهم ما عندهمش الحق يضربوه.. راه البوليس وما عندوش الحق في الضرب فين هي حقوق الإنسان”.. وما إن رأى الشاب الدم ينزف من فمه حتى انتابته نوبة من “الجعرة”، فاستل سكينا من جوربه من نوع “سبعة النقشات” وبدأ يلوح به هنا وهناك غير عابئ بما يمكن أن ينتج عنه تصرفه، فسدد ضربة قوية بيده أدت إلى كسير زجاج النافذة المتواجدة قربه، لتنتقل بذلك عدوى “الجعرة” إلى المراقبين، فأصبحت الحافلة تعج بالفوضى والصراخ، وتعالت أصوات الأطفال والنساء وهن يصرخن ويولولن ويطلبن من السائق التوقف وفتح الباب ليتمكن من الفرار بجلودهن، وفي هذه الأثناء تمكن المراقبون الخمسة من إحكام قبضتهم على “السالت” في وقت تزامن مع وقوف الحافلة قرب أحد مراكز الشرطة لينزلوا وهم يقتادونه إلى داخل المركز، ليتم هناك إكمال مسلسل “الترمضين”.
السائق “المرمضن”
شتم وسباب وعنف وسط الشوارع، فـ”الترمضين” يصل أوجه لدى بعض السائقين ومستعملي الطريق مع اقتراب موعد الأذان.
الساعة تشير إلى السابعة مساء، انطلق العد العكسي لموعد الإفطار، الكل يسابق الزمن ويحاول الوصول بسرعة إلى بيته، تبدو الشوارع وكأنها تحولت إلى معرض للسيارات الخاصة والحافلات وسيارات الأجرة الكبيرة والصغيرة والعربات، تتعالى أصوات المنبهات التي تزيد من حدة التوتر لدى مستعملي هذه الشوارع.
“تنكره ندوز من هاد الطريق.. غير الله يكمل هاد النهار على خير”، بنبرة حادة عبر صاحب سيارة أجرة صغيرة عن تذمره واستيائه بعد أن طلبت منه زبونته أن يعرج على هذا الشارع “لغرض في نفس يعقوب”، دون أن يعلم أنه سيظل عالقا بهذا الشارع لأكثر من 20 دقيقة، فأطلق العنان لمنبهه الذي لم يجد نفعا وسط الازدحام الشديد الذي عم تقاطع الطرق نتيجة تكدس السيارات والحافلات في الجهات الأربع بعدما أضاعوا جميعا بوصلة الاتجاهات، وفي ظل غياب شرطي المرور الذي من المفروض فيه أن ينظم حركة السير، ظلت أضواء الإشارة تتغير بين الأخضر والأحمر دون أن يعيرها أحد أدنى احترام، فانطلق السائق يرغد ويزبد ويشتم وينعل الساعة التي خرج فيها للعمل، وبعد أن بلغ عنده السيل الزبى، نزل متوجها نحو السائق الذي يتقدمه متهجما عليه بعدما أسكت هذا الأخير محرك سيارته إيذانا منه بتمضية المزيد من الوقت على هذا الحال.
“واش بغيتينا نفطرو هنا مال راسك قاصح سرح الطريق راحنا خدامين وخاصنا نمشيو عند ولادنا..” فما كان من السائق الثاني إلا أن نزل هو الآخر من سيارته فدخلا في مشاداة كلامية كادت تتحول إلى اشتباك بالأيدي لولا تدخل بعض المارة لتهدئة الوضع من جهة، ومحاولة فك عقدة الطريق عبر تعويض شرطي المرور في تنظيم عملية المرور من جهة ثانية.
مقطوع و”مرمضن”
سمير أو “الذيب”، كما يحلو لأبناء حيه مناداته، هو شاب في عقده الثالث، عاطل عن العمل، مدمن مخدرات وحشيش، هادئ وبشوش، اعتاد أن يمتهن في رمضان إحدى المهن التي ترتبط بهذا الشهر، فاتخذ من “راس الدرب” الذي يعمر فيه طوال السنة، محلا له لبيع بعض أنواع العصائر والحلويات. لكن يبدو أن الحظ دائما له بالمرصاد فنادرا ما يأتيه زبون أو زبونان في اليوم، إذ رغم هدوئه وبشاشته فالكل يؤمن بالهدوء الذي يسبق العاصفة، ويحاول قدر الإمكان اتقاء شره والابتعاد عنه. “هو ظريف والله يعمرها دار ولكن إلى جبدو شي حد غير يشهد على روحو..”، يعلق أحد أبناء حيه.
“صحايبي يلاه فايق وباقي خاااسر ومقطوع بلا ما تخليني نتعصب عليك.. هز عليا شغلك وسير عليا من هنا أو لا ما غادي يعجبك حال..” كان هذا رد سمير على زبون اقتنى منه قنينتي عصير فأعادهما له بدعوى أنهما غير مبردتين وهو لا يتوفر على ثلاجة، مما أثار حفيظته بشكل مستفز، فأطلق العنان للصراخ بطريقة هستيرية جعلت أبناء حيه يقفون مشدوهين، منهم من حاول التدخل بـ”الخيط الأبيض”، ومنهم من فر هاربا خوفا من حدوث أي رد فعل مفاجئ من جانبه، ناعتا كل من حوله بـ”القواسة” و”الحضاية”، وبأقبح الأوصاف مستعملا قاموس الكلام النابي والفاحش، لكن وفي ظل تجاهل كل من يوجه لهم السباب والشتائم وبعد حضور والدته التي أجهشت بالبكاء والصراخ هدأ قليلا وقبّل رأسها قبل أن يقول: “الواليدة سمحي ليا.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. اللهم إني صائم”.
“مرمضن” و”على سبة”
رغم كوميدية بعض المواقف المأساوية، إلا أنها أصبحت من المشاهد المألوفة عند المغاربة في شهر الصيام، تتكرر بشكل يومي سيما في أوقات الذروة التي تعرف ازدحاما كبيرا واكتظاظا بالمارة، والمتبضعين في الأسواق العمومية والمحلات التجارية حيث تنشط حركة البيع والشراء، إذ تصل “الترمضينة” إلى أقصى درجات تجلياتها الدراماتيكية حينما يشتد إحساس الباعة المتجولين بالجوع والعطش وتقل نسبة النيكوتين والكافيين في دمهم، فيصبح “المرمضن” “على سبة”، فيفقد جادة صوابه لأتفه الأسباب وقد يدخل في ملاسنات كلامية أو شجارات قد لا تحمد عقباها مع الصائمين.
“كاينين شي وحدين غير على سبة.. هما اللي تيغلطو فيك وإلى غير شفتي فيهم تيلصقوك ويسمعوك الهضرة اللي ما عمرك سمعتيها.. وقد يوصل الأمر حتى لجبيد المواس والسكاكن”، توضح زهيرة، بائعة “البغرير” بأحد الأسواق العمومية.
رمضان شهر الصفاء الروحي
“الترمضين” هو حالة من التوتر والقلق التي من الطبيعي أن تصيب الإنسان في حياته اليومية لأنها مليئة بمجموعة من الصعوبات المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية المتوترة أصلا، والتي تجعله يتوتر فيصاب بالنرفزة والعصبية والانفجار في العلاقات الإنسانية لأتفه الأسباب بالسب والتجريح واعتماد بعض السلوكات العنيفة، إضافة إلى التخوف من رمضان، فاليوم طويل، والجوع، والعطش، وارتفاع درجة الحرارة، والعطلة التي يحتاج فيها الإنسان عادة للراحة والترفيه، وحالته الفيزيولوجية، فهو في حالة صيام، يعني انخفاض نسبة السكر في الدم وتراجع الطاقة، مما يجعل الجسد كله في حالة توتر، ناهيك عن الضغط الديني الذي يمنع الإنسان من القلق، فيحاول أن يجد لنفسه بعض التبريرات قبل مجيء رمضان، لذلك فهو يبقى مستعدا سيكولوجيا لكي يصبح “مرمضن”، وهذا الاستباق النفسي بأنه يمكن أن يصيبه التوتر هو ما يجعله متوترا، توضح الدكتورة خلود السباعي، أستاذة في علم النفس الاجتماعي بكلية الآداب-المحمدية، قبل أن تضيف: “الأفكار الموجودة في الذهن تتحول إلى سلوكات، وحينما يكررها ويبررها تتحول إلى عادات راسخة عنده بحكم أنه في رمضان وهذه المسألة لا تحصل له وحده، بل هي مسألة عامة. هذا بالنسبة للإنسان العادي، فما بالك بالمدمن أو “المقطوع” الذي تعود على بعض المخدرات التي لا يمكنه تناولها في رمضان، فالأمر يصبح أفظع بكثير، وقد يبلغ إلى العنف القوي الذي يصل حد الضرب أو إلحاق الضرر بالآخر فيزيولوجيا”.
التوتر هو حالة طبيعية وواردة عند الإنسان، لكنه حينما يحصل في رمضان يسمى “ترمضين”، مما يجعل هذه الحالة تتحول من طبيعية إلى سلبية لها دلالة قدحية، ويبقى على وسائل الإعلام أن تلتزم بضرورة التوعية والتحسيس بكيفية مواجهة هذه السلوكات، على اعتبار أن هذا الشهر شهر التسامح، ولذلك يبقى المطلوب من الناحية الدينية، وحتى السيكولوجية، أن يتهيأ الإنسان لرمضان قبل مجيئه، بأن يتعاهد مع نفسه ويرودها على أن لا يصاب بالقلق الذي هو مسألة طبيعية ومن صميم الحياة اليومية، لأنه سيدخل في مرحلة لها قدسيتها وحرمتها التي يجب أن تحترم، تؤكد أستاذة علم النفس.
لا يجوز “الترمضين” في رمضان
يؤكد مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي بوجدة، أن رمضان لا علاقة له بالسلوكات العنيفة التي تصدر عن بعض الأفراد لأتفه الأسباب تحت غطاء “الترمضين”، فالإنسان يمكن أن يجوع في غير هذا الشهر، ومع ذلك تبقى تصرفاته وردود أفعاله طبيعية، إذ المفروض في رمضان أنه يقلل من الهيجان وينقص من الضغوط على الإنسان.
وبالنسبة لمدى صحة صيام “المرمضن”، يضيف بنحمزة أن: “الصوم من شأنه أن يهذب النفس ويضبطها، فلا يجوز له أن يرتكب كل ما من شأنه أن يفسد عليه صيامه، سواء كان فعلا أو قولا، وإلا سيصبح ذلك مجرد نوع من صوم التقاليد والعادات الناتج عن عدم الإلمام بالحكمة من الصيام، فلا يمكن أن نقول إن صوم “المرمضن” باطل إلا إذا نطق كلمة كفر أو صدر عنه فعل يوجب إبطال صومه، وما دون ذلك فهؤلاء الناس يسيئون إلى أنفسهم قبل أن يسيئوا إلى رمضان، إذ يبقى المفروض فيهم أن يكونوا على وعي بالحكمة من الصيام عبر قراءة بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعنى بهذا الجانب قبل مجيء رمضان”.