فيسبوك يرصد الميول والأهواء السياسية والدينية
فيسبوك كالأخ الأكبر يرصد الميول والأهواء السياسية والدينية
يرسم فيسبوك صورا نمطية عنا من خلال رصد ما ننشره وانطلاقا من تفاعلنا داخل الموقع وخارجه، وهو بذلك يتيح للمروّجين استهدافنا بإعلانات بناء على تلك الصور التي شكلها عنا مع مرور الزمن. ولكن ما هو مؤكد الآن أن أي شخص منا بإمكانه أن يفهم استخلاصات فيسبوك عنه وأن يتعرف على طريقة استهدافه من خلال إعلانات من نوع معين دون غيرها.
الإعلانات شريان الحياة المالي الذي يبقي فيسبوك مجانيا
فيسبوك يعلم الكثير عن ميولنا السياسية والدينية ويقوم بتخزينها ويسجل علاقاتنا الاجتماعية، واهتماماتنا العامة والخاصة أكثر مما نتخيل، ويصنفنا ويضعنا في خانات، ويجعل استخدام هذه المعلومات متاحا للمروجين والمعلنين سواء كانوا شركات تجارية أو أحزابا سياسية أو جهات رسمية في دول ومؤسسات محلية وأجنبية. فيسبوك لا يقدم معلومات شخصية عن المستخدمين بأسمائهم، إلا أنه يستخدم بياناتهم ليتيح تصميم إعلانات تستهدف شرائح معينه من الناس دون غيرها.
كل شيء ننشره على فيسبوك أو نتفاعل معه، وكل علاقة صداقة نبنيها أو ننهيها، وكل صفحة نعجب بها أو نلغي إعجابنا بها يُسجلها فيسبوك في بيانات؛ تتيح له إمكانية استخلاص صورة نمطية عن المستخدم وهواياته وميولاته الدينية والسياسية حتى وإن لم يحددها مباشرة أو ينطق بأي كلمة تدل عليها، فما يقوم به على فيسبوك وحتى خارجه يمكن رصده من قبل التقنيات المختلفة التي توظفها الشركة.
كل ما سبق لم يعد سرا ولكن الجديد الذي نبّهت إليه صحيفة “نيويورك تايمز” في مقال نشرته الخميس الماضي، أن فيسبوك يصنف سكان الولايات المتحدة بحسب تصنيفات أكثر دقة، فلا يكتفي مثلا بتسجيل أنهم أعضاء في حزب سياسي ما، بل يصنفهم إما بالمعتدل سياسيا وإما بالمحافظ وإما بالليبرالي وإما بالوسطي وغيرها من التصنيفات التي توزع الناس على كامل الطيف السياسي، وهي تصنيفات تعتبر بمثابة الكنز الثمين لأي شركة ترويج أو جهة سياسية تسعى إلى التأثير.
ومع أن هذا النوع من التصنيف الدقيق يظهر الآن للذين يسكنون في الولايات المتحدة على حساباتهم الخاصة، وليس واضحا كيف يتعامل فيسبوك مع تصنيف مختلف الناس في بلاد أخرى حول العالم، إلا أنه من المستبعد أن يقتصر على الأميركيين، فعدد هائل من الناس يستخدم فيسبوك، إذ أن ما يقارب الـ24 بالمئة من سكان الكرة الأرضية يستخدمونه يوميا وبانتظام. وكل المشاركات التي يقومون بها والكم الهائل من التفاعل وعمليات البحث في محرك بحث فيسبوك، هي بمثابة ثروة عظيمة من المعلومات يمتلكها فيسبوك ليجعل من نفسه منصة مثالية للإعلانات.
المنتجات والسلع كالكتب والسيارات والعطور، ليست الأشياء الوحيدة التي يتم تسويقها وترويجها من خلال فيسبوك، فالأفكار أيضا تُسوق، والأحزاب السياسية تشتري إعلانات فيسبوك وبكثرة
الإعلانات التي تشاهدها على فيسبوك وغيره من المواقع هي شريان الحياة المالي الذي يبقي فيسبوك والكثير من مواقع الإنترنت مجانية للمستخدمين دون الحاجة لدفع رسوم مقابل الاستخدام، حيث تدر هذه الإعلانات أرباحا هائلة على فيسبوك وغوغل وتمكنهما من تطوير خدماتهما باستمرار.
تختلف منصة الإعلانات الخاصة بفيسبوك بل وتتفوق على غيرها بما تتيحه للمعلنين من إمكانية تحديد كيف تظهر إعلاناتهم ولمن تظهر، فإن كان المعلن يريد تسويق منتج للشباب من الذكور دون الإناث المقيمين في مدينة طوكيو مثلا، تتيح له منصة إعلانات فيسبوك ذلك، وتظهر إعلاناته لهذه الفئة فقط، ويمكن للمعلن أن يحدد الفئة المستهدفة بدقة أكثر.
ولنفترض أن السلعة التي يريد تسويقها هي كتاب عن الموسيقى الكلاسيكية الغربية وباللغة الإنكليزية، يقوم المسوق بتحديد أن الفئة المستهدفة هي الشباب الذكور المقيمون في طوكيو والمهتمون بالموسيقى الكلاسيكية الغربية والذين يتقنون اللغة الإنكليزية بالإضافة إلى لغتهم الأم؛ وهكذا يستطيع المعلن أن يصل فقط لمن يريد وبتكلفة مناسبة، وهذا يعتبر أيضا ميزة إيجابية لمستخدم فيسبوك العادي، فغالبا ما يرى الإعلانات المناسبة له فقط، ولا يعاني من مشاهدة إعلانات لمنتجات لا تناسبه.
المنتجات والسلع كالكتب والسيارات والعطور، ليست الأشياء الوحيدة التي يتم تسويقها وترويجها من خلال فيسبوك، فالأفكار أيضا تُسوق، والأحزاب السياسية تشتري إعلانات فيسبوك وبكثرة، فهذا العام هو عام انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث ينفق كل مرشح الملايين من الدولارات على إعلانات فيسبوك لاجتذاب الناخبين، وفي هذا الإطار تقول صحيفة “نيويورك تايمز” إن فريق دونالد ترامب قام بشراء إعلانات فيسبوك وجعلها تظهر تحديدا لمن تم تصنيفهم من قبل فيسبوك بـ”المعتدلين سياسيا”.
وفي مجال الدعاية السياسية يمكن أيضا تصميم إعلانات مختلفة وتوزيعها عبر مجموعات، مجموعة تظهر فقط لمناصري المرشح ومجموعة أخرى مختلفة تظهر لشرائح الناخبين العائمة والتي لم تحدد موقفها بعد، وبالتالي فإن الحملة الانتخابية لا تتكلف الدفع مقابل إعلانات لا لزوم لها.
وهناك جانب مظلم لهذا الأسلوب الدعائي، قد يستخدمه المرشح للمراوغة السياسية، فقد يصمم مجموعة من الإعلانات تظهره في شكل الحازم جدا في موضوع يهم مؤيديه بولاية معينة وإعلانات أخرى تظهره أكثر ليونة أمام أصحاب وجهات النظر المغايرة في الولايات الأخرى. وهذا الأسلوب الإعلاني في الحملات الانتخابية، يحصل فعلا وتصعب ملاحظته ورصده بشكل شامل من قبل الإعلاميين والخبراء السياسيين نظرا إلى عدم قدرتهم على مشاهدة كل الإعلانات، على عكس الإعلانات التي توضع في الصحف والتليفزيون والراديو، فمهما تنوعت يبقى عددها محدودا وقابلا للرصد.
دونالد ترامب: تصنيفات فيسبوك تعتبر بمثابة الكنز الثمين لأي جهة سياسية تسعى للتأثير على الجمهور
إلا أن فيسبوك مختلف تماما، فحساب كل شخص على فيسبوك هو بمثابة قناة إعلانية مستقلة، ولا يمكن رصد مختلف الإعلانات التي ترسل لكل حساب، إلا من قبل صاحب الحساب نفسه، وهذا ما يفقد الإعلام فرصة فحص كل جوانب الحملات الإعلانية التي تقوم بها مختلف الأطراف وتحرم الصحافيين من إمكانية ممارسة سلطتهم في إخضاع إدعاءات المرشحين للمراجعة.
ولهذا لجأت صحيفة نيويورك تايمز إلى إنشاء موقع متخصص فقط في رصد أكبر عدد ممكن من الإعلانات التي تشتريها الحملات الانتخابية الخاصة بدونالد ترامب وهيلاري كلينتون وغيرهما من الأطراف الداعمة لهذا الطرف أو ذاك على فيسبوك، وطلبت الصحيفة من الجمهور بأن يقوم بتثبيت تطبيق “AdTrack” صممته خصيصا لتتمكن من رصد الإعلانات السياسية التي تظهر للجمهور وإرسالها لموقع الصحيفة لتحللها.
وتخاطب الصحيفة جمهورها بالقول “أرسلوا لنا الإعلانات السياسية التي تظهر لكم على فيسبوك، فالتايمز تريد أن تدرس الحملات الانتخابية وكيفية استهداف المنتخبين، قم بتثبيت تطبيق ‘AdTrack’ وشاركنا في الإعلانات التي تراها على فيسبوك”. وأثناء العمليات الانتخابية الكبرى قد لا يقتصر شراء الإعلانات على المرشحين أنفسهم وفريق الترويج الخاص بهم، بل يمكن لأي طرف كان أن يؤثر على جمهور الناخبين من خلال الإعلانات لخدمة أجندة معينة، فمن الناحية النظرية، ليس هناك ما يمنع أي طرف في روسيا مثلا من القيام بحملة إعلانات مباشرة أو غير مباشرة لترجيح كفة مرشح على حساب الآخر أو لجعل قضية ما تأخذ حيزا كبيرا من الاهتمام أثناء الانتخابات.
وجدير بالذكر أنه لم تكن هناك إمكانية من قبل بأن يرى المستخدم العادي كيف يقوم فيسبوك بتصنيفه وكيف يتم استهدافه بالإعلانات، ولكن مؤخرا قام فيسبوك بتحديث قسم تفضيلات للإعلانات الخاصة بالمستخدمين، وطوره ليتيح لكل مستخدم إمكانية إلقاء نظرة وفحص الاستنتاجات التي بناها عنه، كما يمكن للمستخدم أن يقوم بحذف أو إضافة التفضيلات التي بناء عليها تم استهدافه من خلال هذه الإعلانات.
الإعلانات أصبحت جزءا من الحياة مع الإنترنت، وستتطور وتتغير مع الوقت وتصبح أكثر مناسبة وملاءمة وأكثر شخصية، لهذا من الضروري أن يصبح المستخدم على دراية بما يدور خلف الكواليس وأن يشارك بفعالية في تحديد ما يعرض عليه من إعلانات، فلكل إعلان نشاهده تأثير في تشكيل وعينا وحياتنا، حتى إن لم نقم بالاستجابة الفورية لما يطلبه.