لـيلة سـبت جامعـفـناوية
الكاتب:
مراكش 24
محمد أسليم
ومن قال أن الحرافيش ـ كما سماهم نجيب محفوظ ـ لا سبت ولا سهر لهم؟ بمراكش ـ وبمراكش على الخصوص ـ لهم سبتُهُم، وليالي سبتِهِمُ الساهرة الممتدة… ليالي تطغى فيها المتعة ويسيطر الإستمتاع، وتغلب الفرجة والإبتسامة في انتظار بداية اسبوع شاق مرهق وهموم يومية لا تنتهي.. خصوصا في ظل زيادات متواصلة باتت شعارا للمرحلة الحالية..
بساحة جامع الفنا أو جامع الربح او لا بلاص.. والتي رتبت ثانية عالمية بين مثيلاتها.. ويقينا لا مثيلة لها، فهي عنوان للتفرد والتميز تصعب فبْركتُه أو تقليده، ويستحيل نهج سبيل “الكوبّي كولي” عليها.. علما أن محاولات من هذا القبيل وفي مراحل زمنية سابقة باءت بالفشل، وفي زمن كان فيه “الكوبّي كولي” كلاما لا معنى له.. ساحة أسرَتْ بجاذبيتها وجمالها وفُرجتها فنانين وأدباء وسياسيين والكثير من الأناس العاديين.. بل إن خوان غويتيسولو، الكاتب الإسباني المقيم في مراكش وأحد عشاق الساحة الكبار إعتبر أن «المدينة بغير الساحة، لا أهمية لها”.
بالساحة يجد المواطن المطحون ماديا بمدينة البهجة وبمحيطها أيضا موطئ قدم بكل سهولة ويسر، وبجانبه السائح القادم من أقصى بقاع الأرض تحركه رغبة قوية في سبر أغوار مشهد جامع الفنا الجميل المستعصية مقاومة جاذبيته.. وبجانبهما مواطنون آخرون لكن بإمكانيات مالية أفضل من سابقيهم.. فالفرجة هنا ديموقراطية متاحة للجميع وبشكل تضامني وتطوعي في الآن ذاته، فالمبالغ المؤداة ـ إن أديت فعلا ـ إختيارية ترتبط أساسا بالإعجاب والتضامن وأحيانا بالإقناع، لتبقى الكرة في ملعب الفنان الحلايقي ومدى تمكنه من صناعة المتعة والفرجة ونشرهما بين أسوار حلقته..
حلْقة كْناوية تستهويك حتما بنغماتها الروحانية، واكسسواراتها ورقصاتها الضاربة في العمقين التاريخي والجغرافي الإفريقي.. حلقة أخذت بُعدا عالميا بامتياز: فالمْعْلّمْ الكناوي مغربي ترقص على نغمات كَنْبَريه شابة إفريقية لا تخطئها العين من الوهلة الأولى، وأوروبي أرخى شعره ولحيته وارتدى جلبابا مغربيا يحيلنا بمنظره هذا على الصوفيين من قبيل هداوة وجيلالة لمن يتذكرهما.. الأوروبي إمتطى صهوة هذا الفن الراقي وبات مسافرا عبره في أزمنة وأمكنة أخرى. وحول هؤلاء جميعا الكانكا (الطبل الكبير) والقراقش في تناغم تام ورقصات آسرة. رواد الحلقة، والذين إنقسموا بين مندهِش ومُنْتَشٍ يردد من حين لآخر مقاطع: للا ميرة.. الكناوي سيدي ميمون… الله يا نبينا..
خطوات قليلة وننتقل من فضاء يعُجّ بمْلوك المكان وفقا للمعتقدات الكناوية إلى حلقة عنوانها الأبرز الأغنية الأمازيغية، من موسيقى الروايس إلى أغاني المجموعات الشبابية تتخللها مقاطع مسرحية فكاهية، تحمل رسائل وتبث معاناة الكثيرين، من خلال معالجتها لقضايا أسرية إجتماعية واقتصادية وللواقع السياسي حتى.. وبعيدا عن الإيركام ومشاريعه، الكل يتواصل ويستوعب ويستمتع.. فلغة الإستمتاع تتجاوز كل الحدود اللغوية..
يمينا قليلا وبحلقة أصغر مساحة، لكن بحضور أكثر جماهيرية دلالة على حنين دفين لفن لم ولن يموت.. المجموعات الغيوانية بأغانيها الملتزمة والمثقلة بأنين المعاناة أحيانا والرغبة في معانقة غد أكثر إشراقا أحيانا أخرى.. مجموعة صغيرة إختارت التنقل بين إبداعات جيل جيلالة والسهام ولرصاد… وناس الغيوان طبعا. نوسطالجيا حقيقية لفن السبعينات والثمانينات.. وغناء جماعي لكل الحاضرين الثمالى يثبت أن للفن الجميل في كل زمن محبون وعاشقون.
نتجاوز حلقة الفن الملتزم كما سميناه، لنحط الرحال وسط مجموعة أخرى لكن بشعار مختلف تماما: العيطة بكل تلاوينها.. أغان شعبية بطعم الجَرّة.. الستاتي حاضر بقوة من خلال أغانيه وأيضا من خلال شبيه له، يتفنن في تقليد حركاته وسكناته.. العْلوة ترتفع لتخرج الأجساد عن السيطرة.. رقص وهزّ وحطّ.. جو إحتفالي بامتياز.. ومتمنيات بأن تطول الليلةُ وتطول..
في عمق الساحة، وفي رُكنها النائي عروض لمجموعة فلكلورية، عْيوطُها حوزية محلية، بعض أفرادها تَحَلّوْا بأزياء نسائية.. وأتقنَّ عفوا أتقنوا رقصات الشيخات.. وبرعوا في توزيع غمزات ولمزات.. وإشارات وتحرشات.. والهدف طبعا إستجداء نخوة وكرم بدوي نائمين..
بجانب كل ماسبق مطعم مفتوح ـ وبعروض متنوعة ومختلفة ـ ولكل ما يناسبه ـ ماديا طبعا ـ فالأثمان رمزية في معظمها وهي مهيئة للإشباع وطبعا للإمتاع..وكما نقول بدارجتنا المغربية: إلا شبعت الكرش كتقول للراس غْني.. فالمغنى على بُعد خطوات