من أرشيف مراكش :الحسن الثاني "غضب " من الصحافيين المغاربة وتوجه لمراكش على عجل
الكاتب:
طلحة جبريل -مراكش 24
الحسن الثاني أغاض الصحافيين بالرباط وتوجه لمراكش على عجل وأثنى في شكر “الشرق الأوسط “
إستقبل صحافيين عرب بالقصر الملكي وأمر الفيلالي بالترخيص للجرائد العربية بالطبع في المغرب >
حين صدرت صحيفة “الشرق الأوسط” قبل أزيد من ربع قرن من الزمان نزلت السوق المغربي على حياء. كانت تصل متأخرة عن موعد صدورها بيومين وأحياناً بثلاثة أيام. لكنها أثارت الاهتمام.
وفي ظني الآن أن العودة إلى محطات الماضي غرضها أن نعرف عنه وليس ان نتمسك به. وسأقتصر على محطة بدت لي مثيرة. تداخلت فيها مشاهد وتفاصيل تروي جزءاً من “تاريخ” الصحيفة في المغرب. ولعله من حسن حظي أني كنت في قلب المشهد وأتاح لي ذلك أن أعرف. وأجد لزاماً علي أن أكتب في هذه المناسبة بعض ما أعرف.
كان القارئ المغربي في تلك الأيام التي تباعدت منجذباً للمجلات الأسبوعية العربية التي تأتي من لندن وباريس، ورغم ذلك راح عدد من القراء، في حدود عشرات، يهتمون بـ”الشرق” كما يطلق عليها في المغرب. الصحافيون والإعلاميون كانوا أكثر اهتماماً لعلهم وجدوا في أسلوبها المهني وخطها التحريري المعتدل ما يلفت الانتباه. كان أسلوباً جديداً. كانت الساحة المغربية تنغل بشعارات اليسار لذلك صنفها آخرون كصحيفة “يمينية”. بعضهم قال إنها صحيفة “كامب ديفيد” في إشارة لأول اتفاقية صلح عربية إسرائيلية.
رغم ذلك راح الاهتمام بالصحيفة يتزايد. ومع تزايد الاهتمام ارتفعت أرقام التوزيع.
وهكذا لاحت فكرة طباعة الصحيفة في المغرب. لم يكن هناك في المغرب من ينتظر خطوة كهذه ولا كان هناك تصور أو تقدير لتبعات هذه القفزة.
سبق تلك القفزة فتح مكتب للصحيفة في أول مايو (أيار) 1983 في شارع حسين الأول في وسط الرباط. كان مكتباً متواضعاً. وكان مطلوباً منه تغطية المغرب والجزائر وموريتانيا وليبيا، أما تونس وعلى اعتبار أنها مقر الجامعة العربية آنذاك فقد فتح فيها مكتب خاص.
ثم بدأت اتصالات للحصول على رخصة للطباعة في المغرب. وما أن تسرب هذا الخبر حتى بدأت العواصف هبوبها، كما يقال.
هنا لا بد أن أقول انني لا اعتمد على الذاكرة في سرد بعض الوقائع. الاعتماد على الذاكرة في مثل هذه الأمور ثقة زائدة. لذلك عدت إلى أوراقي، أبحث وأنقب وأستخلص وأكثر من ذلك أتأكد، حتى لا يقول أحد ان ما يقال بعيد عن الحقيقة. وحتى أكتب ما أكتب بنوع من الاطمئنان. خاصة أنه بدا لي الكثير مما قيل ويقال مجافياً لما سمعته بأذني ورأيته وقرأته بعيني في زمانه ومكانه. رغم يقيني أن ما يكتب هو “تاريخ” و”التاريخ” يكتبه المؤرخون وليس الصحافيون
في البداية تم تداول خبر طباعة “الشرق الأوسط” في الأوساط الصحافية. لكن سرعان ما أخذ الأمر منحاً آخر، كان تسلسل الأحداث تصاعدياً.
في سبتمبر (أيلول) 1983 بدأت حملة ضد فكرة طباعة “الشرق الأوسط” في المغرب. وفي الشهر الموالي ستصدر النقابة الوطنية للصحافة المغربية بياناً يقول إن “طبع وإصدار صحف أجنبية في المغرب وإغراق السوق المغربية بهذه الصحف تهديد لحرية التعبير والرأي” ويزيد البيان “يكمن هذا التهديد في تهميش القضايا الوطنية مثل قضية الديمقراطية والوحدة الترابية”. ثم نشرت النقابة بياناً يطالب “بعدم فتح السوق المغربية أمام الصحافة الأجنبية”.
وفي الشهر نفسه ستعقد النقابة اجتماعاً مع المرحوم المعطي بوعبيد الوزير الأول (رئيس الوزراء) أصدرت على اثره رئاسة الحكومة المغربية في محاولة لتهدئة المخاوف بياناً رسمياً يقول إنها لم تتسلم طلباً بطبع أية صحيفة. لم يكن هناك من قرأ طلباً مكتوباً وإنما كان هناك من سمع.
كان ما قيل صحيحاً تماماً. لم تكن رئاسة الحكومة على بينة من الأمر حيث كانت الاتصالات تتم وفي تكتم مع القصر الملكي مباشرة.
الآن أقول إن الملك الراحل الحسن الثاني كان يرى ومنذ البداية أن فكرة طباعة “الشرق الأوسط” في الدار البيضاء فكرة مغرية تستحق الاهتمام، وكان ظنه أن الصحيفة ستكون صلة وصل بين المشرق والمغرب وأن القضايا المغربية ستجد منبراً موضوعياً. لكن أحزاب المعارضة لم تكن تقاسمه هذا الرأي، كانت ترى أن الصحيفة ستنافس الصحف المحلية وربما تسحب عدداً كبيراً من قرائها كما أن الحكم ربما “يوظفها” ضد الصحف الحزبية.
ونشرت الصحف المغربية، وكانت آنذاك ست صحف يومية، كتابات شديدة اللهجة ضد طبع “الشرق الأوسط” في المغرب.
وفي 21 مارس (آذار) عام 1984 يصدر قرار في “الجريدة الرسمية” وقعه عبد اللطيف الفيلالي وزير الإعلام في حكومة محمد كريم العمراني بالسماح لصحيفة “الشرق الأوسط” بالطباعة في الدار البيضاء. وبدأت ترتيبات طباعة الصحيفة تسير قدماً بالتساوق مع حملة صحافية وسياسية عنيفة ضد القرار.
ثم تحولت التطورات إلى سيل متدافع ومتسارع تتزايد حركته.
يوم الجمعة 13 ابريل (نيسان) عام 1984 ستحتجب الصحف المغربية اليومية والأسبوعية عن الصدور احتجاجاً على قرار طبع “الشرق الأوسط” في المغرب. كان عملاً تصعيدياً للغاية.
عقدت النقابة الوطنية للصحافة المغربية ندوة في “فندق حسان” في الرباط تحدث خلالها محمد اليازغي نقيب الصحافيين آنذاك وشرح أسباب الإضراب وركز على أن طباعة الصحيفة في المغرب ستخلق ظروفاً تنافسية غير عادلة في سوق الصحف في البلاد.
مساء 30 أبريل (نيسان) كانت أجهزة “الفاكسميلي” وهي التقنية المستعملة آنذاك، تحمل أولى صفحات الصحيفة من مقرها في “غولف اسكوير” قرب شارع “فليت ستريت” في لندن إلى مطابع الصحيفة في حي “عين السبع” في الدار البيضاء.
تلقف القراء المغاربة صبيحة أول مايو (أيار)، ورغم الحملة الضارية، أول عدد من “الشرق الأوسط” يطبع في الدار البيضاء.
كان أسلوب المعالجة التحريرية للصحيفة خلق زخماً لا يمكن إيقافه.
لكن النقابة المغربية وبعد الإضراب واحتجاب الصحف لم تركن إلى الصمت وقررت رفع دعوى قضائية ضد قرار الطبع، ثم اتخذت الأحزاب قراراً بأن لا يدلي أي مسؤول حزبي بتصريح أو حديث للصحيفة. والواقع أن ذلك القرار كان يعني عملياً تضييق الخناق على مصادر الصحيفة، وساير عدد كبير من الكتاب والمثقفين المغاربة هذا القرار. أصبحنا في مكتب الصحيفة في الرباط في حالة حصار تام. وتواصلت حملة التشويه والتشويش. ودعت النقابة القراء المغاربة إلى مقاطعة الصحيفة.
كانت البيانات تصدر يومياً من المنظمات والجمعيات والنقابات تكيل الاتهامات للصحيفة. أضحت “الشرق الأوسط” تواجه تحديات جمة في المغرب. وتلقينا في المكتب تهديدات كثيرة لكن لم نحفل بها، إلى حد أن بعض الصحف كتبت تقول إن السلطات المغربية وفرت “حماية أمنية” للمكتب ولم يكن ذلك صحيحاً. كان مكتب الصحيفة مجاوراً للمكتب الثقافي المصري وكان هناك شرطي يحرسه. كان ذلك كل ما في الأمر.
وضغطت بعض الجهات غير الرسمية في المغرب في إطار الصيد في الماء العكر، على إدارة الصحيفة بأن ترد على تلك الحملة، وكادت الأمور أن تنزلق فعلاً في هذا الاتجاه. لكن كان هناك من يرى داخل الصحيفة أن أفضل موقف تجاه تلك الحملة هو التزام الصمت. الصمت الذي يكون أبلغ من الكلام. صمت يصبح صوتاً.
أقول الآن انني كنت مع الرأي الثاني منحازاً ضد الرأي الأول.
في ظل هذه الأجواء وفي خضم هذه الأحداث طلب الناشران الأستاذان هشام ومحمد علي حافظ آنذاك موعداً مع الملك الحسن الثاني لشكره على قراره طبع “الشرق الأوسط” في المغرب. حدد الموعد في أكتوبر (تشرين أول) من عام 1984 في القصر الملكي في فاس، ووصل بالفعل الأستاذ محمد علي حافظ إلى مدينة فاس لكنه فوجئ بالمستشار أحمد بن سودة يبلغه أن الملك قرر أن لا تقتصر المقابلة على مجرد التعبير عن شكر وامتنان بل اقترح أن يدلي بحديث للصحيفة. طلب مني الأستاذ محمد علي حافظ الالتحاق به في فاس للمشاركة في الحديث. وصلت إلى هناك فجراً وتحدد موعد اللقاء عصراً. لكن ذلك اللقاء أرجئ في آخر لحظة بعد صول لم يكن متوقعاً للرئيس الغيني الأسبق أحمد سيكتوري.
شاءت الأقدار أن يتم اللقاء مع الملك الحسن الثاني رحمه الله، في القصر الملكي في مراكش في يناير (كانون الثاني) عام 1985، حيث أجريت رفقة الزميل والصديق عرفان نظام الدين رئيس تحرير الصحيفة آنذاك حواراً ممتعاً ومطولاً مع العاهل المغربي.
في مستهل ذلك الحوار أراد الملك الراحل أن يبلغ المغاربة رسالة واضحة. كان الحسن الثاني سياسيا بالسليقة يعرف كيف يقول كل ما يريد بكياسة.
قال الملك، وفي ظني أنها المرة الأولى والأخيرة التي يتحدث فيها عن صحيفة تجري معه حواراً، إنه سعيد بأن يدلي بحديث لصحيفة “الشرق الأوسط” لأنها، وهنا أستعمل كلماته حرفياً، “صحيفة معقولة وممتعة لها مصداقيتها يجد فيها القارئ كل ما يريد ويجب عليها أن تحافظ على هذا المستوى” كانت تلك عبارة سحرية فتحت الأبواب على مصاريعها.
ثم ان الملك خصنا بلفتة لا تنسى.
أتذكر أنه بعد 22 دقيقة من الأسئلة والأجوبة وكان التلفزيون المغربي يسجل المقابلة لبثها لاحقاً، طلب الملك الحسن الثاني وقف التسجيل وسألنا ماذا نريد أن نشرب من مشروبات ساخنة أو باردة. وحين أحضرت القهوة والشاي طلب منا مواصلة الحوار. نشر ذلك الحديث على حلقتين وكان هو الذي اقترح تقسيمه إلى حلقتين وقال “ذلك أفضل حتى لا يمل القارئ”. وبعد النشر تقرر أن يبث التلفزيون المغربي الحوار، لكن قيل للملك إن هناك لقطات نحتسي فيها القهوة وسئل ما إذا كان يفضل حذفها. كان الاستفسار في حد ذاته إيحائياً، وكان جواب الملك الحسن الثاني أن يبث الحديث كما صور. كانت لتلك اللقطة دلالتها التي لا تخطئها العين. لعل الملك أراد أن يقول إنه يكن كل عطف على الصحيفة.
وبعد “حديث مراكش” عادت الأبواب تنفتح امامنا وأصبحنا لا نبحث عن الأخبار بل هي التي تصل إلينا. وتحققت فكرة الملك الحسن الثاني في أن تصبح “الشرق الأوسط” جسراً بين المشرق والمغرب.
سارت الأمور على هذا المنوال إلى أن جاءت حرب الخليج الثانية ومرت الصحيفة في المغرب بظروف عصيبة جعلتها هذه المرة في قبضة إعصار هائج.
طلحة جبريل