من حكايات الصنايعية المراكشيين …….1948 البلايغية يصنعون قنبلة ذرية
الكاتب:
عبد السلام البقالي _ بتصرف –مراكش 24
…..منذ أزيد من30 سنة.. وكنت يومئذ صانعا شابا ماهرا في خرازة البلغة هننا في مدينة أصيلة، قدم على دكاننا رجل يلبس ملابس غريبة.. ملابس مغربية، ولكنها غريبة وسلم علينا، وكلمنا بلهجة مغربية غريبة كذلك.. وسألناه من أين هو، فقال من مراكش. فدعوناه للجلوس معنا، وشرب الشاي، فجلس مسرورا، وأخذ يحكي لنا عن بلده الذي لم يكن أحد منا قد زاره في ذلك العهد.. وقال لنا أنه هو نفسه خراز كبير هناك، لذلك يهمه معرفة أهل حرفته في المدن الأخرى..
وكان رجلا لبقا، وسريع البديهة، مليح الثكنة، خفيف الظل، فاستحلينا مجلسه، ودعوته للعشاء والمبيت عندي، فقد كنت أعيش وحدي مع الوالدة. واستطاب هو صحبتي وكلامي، فقد كنت أجيب على نكاته وفكاهاته المراكشية بنكاتنا الأصيلية العريقة.. إلى جانب أنه استلذ (تذريحة) الكيف على طريقتنا (الكتامية)!
:
ـ ……الحاصل به.. يا سيدي.. بات الرجل عندي تلك الليلة، وفي الصباح كنت أتهيأ لأشد الرحال معه إلى بلده مراكش. فقد قال لي عن مراكش، وجمال مراكش، وحلاوة أهل مراكش، وكيف سيتذوقون نكتي، ويعجبون بصنعتي، وكيف سأصبح غنيا في أقرب وقت ووسوس لي، يا ولدي يا الشريف، كالشيطان..
وتنهد، ومص من السبسي طويلا، ثم قال:
ـ الحاصل به، يا سيدي، أتممت إجراءات السفر في يومين.. وأخذت جواز السفر، وصحبت الرجل إلى بلاده مراكش، على متن القطار..
«وكانت مراكش فعلا كما وصفها جنة خضراء يانعة، وسط وادي من النخيل والزيتون والأسوار الحمراء، والصهاريج والغدران».
«وأجل من ذلك كان مجتمع مراكش المنظم، وأسواقها العامرة بالسلع الجيدة الصنع.. وكان الصناع ينعمون ببحبوحة من الرفاهية والرخاء.. بضاعتهم رائجة رابحة كل الناس يلبسون الجلباب والبلغة، والقفطان والدملج والخلخال وغير ذلك مما تنتجه اليد المغربية الماهرة.. ولم تكن بعد قد تفشت موضة الملابس الإفرنجية وأحذيتهم المقفلة..
المهم أنني وجدت نفسي في أحد دكاكين الخراز المراكشي الذي كنت أدعوه مولاي ابراهيم، أعمل بجد، وأتمتع بصداقة الزملاء الجدد الذين وجدت نفسي بينهم وكأنني عشت معهم طول حياتي..
«وذات يوم من أيام الله، أقبل على السوق جماعة من السواح.. ولم أكن قط قد رأيت مثلهم.. فلم يكونوا أوروبيين.. بل من بلاد (اليابان).. أي ما وراء بلاد الصين وسد ياجوج وماجوج.. فقد كانوا صفر الوجوه من غير مرض، منحرفي العيون، قصار القامة، غريبي الكلام حين يتحدثون فيما بينهم. وجاء منهم من قعد معنا في الدكان يصورنا بالآلة السينمائية ونحن عاكفون على العمل، ويسأل عن المواد التي نستعملها، ومنهم من يتذوقها بلسانه.. وفي النهاية اشتروا عينات كثيرة من كل ما نصنع، وذهبوا..
«ومرت شهور على تلك الزيارة.. وذات يوم راجت إشاعة قوية بين أهل مراكش، وخصوصا بيننا نحن الصناع، وهي أن مركبا ضخما قد رسا على ميناء الدار البيضاء يحمل على متنه مئات الآلاف من أزواج البلغة المغربية المصنوعة في اليابان، يعرضونها للبيع بأقل من نصف الثمن في الأسواق المغربية..
«وفزع الناس.. فقد كان رخاء مراكش، بل وحياتها كلها مبنية على أكتاف صناعها فإذا انهارت الصناعة زالت مراكش، وجاع الناس، وتشتتوا بحثا عن أرزاقهم في ميادين أخرى لا علم لهم بها..
«ودار نقباء الصناعات الأخرى على الدكاكين والحوانيت يدعون الناس للتجمع بالجامع الكبير وازدحمت بآلاف البشر، وارتفعت أصواتهم باللطيف والابتهال والدعاء، وآيات القرآن..
«وحين انتهوا من قراءة اللطيف وقف فقيه جبلي مسن، فطلب من الجميع أن يرفعوا أكفهم للسماء، وأخذ يدعو على ياجوج وماجوج الذي يريدون إفقار المسلمين بدعوات تقشعر لها الأبدان.. وأخذ يكرر رافعا يديه ووجهه إلى السماء مغمض العينين في خشوع:
اللهم لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا.. اللهم أنزل عليهم الصواعق! اللهم أرسل عليهم طيرا أبابيل ترميمهم بحجارة من سجيل فتجعلهم كعصف ماكول! اللهم احرقهم بنار غضبك! «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا..!».
«وكنت أنا رافعا يدي هاتين إلى السماء، وقد تشوك لحمي، ووقف شعري، وأنا أقول «آمين».
«وخرجنا من المسجد ونحن مطمئون إلى أن الله لابد مستجيب دعواتنا.. فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.. وكان الفرنسيون قد انزعجوا من هذه المظاهرة الضخمة فأرسلوا الجنود والسينغاليين لحصار المسجد.. ولكنهم فكوا الحصار حين رأوا أن المظاهرة كانت سليمة..
«ومرت أيام قلائل على ذلك، وسمعنا أن باخرة اليابان قد منعت من إنزال بضاعتها المزورة بميناء الدار البيضاء..
«ومرت أيام أخرى، فسمعنا على أمواج الإذاعة الخبر المريع.. خبر سقوط القنبلة الذرية على اليابان واحتراق مئات الآلاف من اليبانيين بالإشعاع الذري الجهنمي.. وذهبت ذلك المساء إلى الجامع الأعظم، فوجدته مزدحما بعدد هائل من الصناع يصلون صلاة الشكر لله على أن استجاب لدعائهم.. جاؤوا من تلقاء أنفسهم، ودون أن يدعوهم أحد لذلك..»
وسكت السي العربي الخليفي لحظة لينظر إلى مفعول قصته على وجوهنا، ثم قال رافعا كفيه لنراهما:
ـ ومنذ ذلك الحين وأنا أنظر إلى هذين اليدين نظرة أخرى.. فقد عرفت بالتجربة أن في إمكانهما، لو توفر الإيمان، صنع القنبلة الذرية، وإرسالها إلى أعدائنا، ولو كانوا في أقصى الأرض..
ويظهر أن القصة كان لها مفهول مهدئ على السي حماد الذي كان قابلا جدا للإيحاء.. فاستغرق في التأمل ونسي عصاه وطبعه العدواني..
وكانت الشمس قد غربت، ولم يبق من آثارها إلا شفق دامي كلوحة هائلة تطبق سائر الأفق الغربي.
وأخرجت السي حماد من خدره بقوله:
ـ أعتقد أن الوقت جان لنلقي بهذه العصا في البحر..
وحين لم يمانع طوحت بها نحو الأمواج التي كانت تتحرك ببطئ ورشاقة ورتابة أزلية..
وافترقنا ذلك المساء، وأنا موقن من أن (السي حماد) لن يتجرأ بعد اليوم على إدانة السي العربي الخليفي، صانع القنابل، ومخرب الحضارات.
ولكن حدسي خاب.. ففي تلك الليلة بالذات، وأنا خارج من السينما، وجدت جوقة من المتفرجين، وفي وسطهم السي حماد قابضا على السي العربي الخليفي من الخلف، مطوقا لذراعيه حتى لا يتحرك. وهو يعضه من أكتافه وظهره، والآخر يتلوى ويصيح بصوت واهن:
ـ الله.! الله.! الله ظهري! الله اكتافي! اشهدوا عليه، آعباد الله. اشهدوا عليه..
والسي حماد يقول بين العضة والعضة:
ـ ألا تخجل أيها المتأخر من الدعاء على بلد عظيم كاليابان؟
ويعضه بحنق ثم يعود:
ـ تبا لك! لو لم تكن متخلفا لدعوت الله أن يعطيك العقل، بدل أن تدعوه ليخرب بلدا جميلا كاليابان!
ثم يغرز ذقنه في ظهره، وهذا يحاول التملص دون جدوى..
ووقف شرطي من أهل المدينة يوسع الحلقة، ويحافظ على النظام، ويتفرج على المباراة الأزلية بين السي العربي الخليفي والسي حماد دون أن يتدخل.. فهما في نظره فوق القانون!