يهود المغرب .. أسئلة الثقافة والتاريخ
لعل أهم ما عمل اليهود على إثباته، عبر جميع الحقب التاريخية، هو الهوية والشخصية .. وهو أمر يصعب استساغته، باعتبار أن لا وجود لشخصية يهودية وهوية يهودية، إذ لا تعدو اليهودية أن تكون ديانة فقط، وبالتالي فأي تفكير في ما وراء ذلك سيجعل الخلفية تسعى لتأسيس كيان سياسي يسمى دولة، وهو ما أطرته الحركة الصهيونية .. هذا وقد أخذت المسألة اليهودية حيزا كبيرا من الاهتمام المصطنع طيلة قرون، فشكلت بيبليوغرافية ضخمة تلتبس فيها الحقيقة بالبهتان، وكان اليهود محط نقمة كل بلد حلوا به، فطوردوا لأنهم لم يحدث ولو مرة أن عبروا عن صدق الانتماء لهذه البلدان، بحيث ظل اهتمامهم بالمجال الاقتصادي وجمع المال للتأثير في الحياة السياسية.
تقديم
لعل الكتابة عن اليهود أخذت الحيز الأكبر، من حيث كم الإنتاج البيبليوغرافي، فسيل الكتابة عن اليهود، على مختلف المستويات، شكل مصدر اهتمام الباحثين على مدى قرون خلت ولا يزال مستمرا، فبلغ بذلك درجة الظاهرة Phénomène، وكأن الأمر يتعلق بمحور الكون، في حين أن لا مبرر لكل هذا الاهتمام الذي نراه مجانيا، سوى أنه ظل يهيئ لانتزاع اعتراف لتاريخ مزعوم. وفي المقابل لم توازي هذا الكم الهائل من الكتابة عن اليهود، كتابات تكشف واقع الحال وتميط اللثام عن حقيقة الحركة الصهيونية التي دعت اليهود للالتفاف حولها والهجرة نحو فلسطين، وأن اليهود المنتشرين في مختلف أرجاء دول العالم يدعمون الفكر الصهيوني، على الأقل ماديا لمن لم يجد للهجرة سبيلا، وهذا أمر لابد من الانتباه إليه، لأن المد الصهيون يده تطال كل بعيد، حتى نجوم هوليود وكرة القدم، ومنهم شارلي شابلن الذي أنتج فيلما طويلا، في زمن قياسي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1940، بعنوان “الإمبراطور العظيم”، يهزأ فيه من هتلر، وذيله بخطاب عاطفي يلبس قناع “الإنساني”.
اليهود وتعدد الهجرات
يزعم اليهود أن هجرتهم الأولى نحو المغرب كانت من فلسطين، وسكنوا الجبال وتحدثوا اللسان الأمازيغي، حيث هرب أجدادهم من الأسر البابلي واحتلال ملك بابل نبوخذ نصر لأورشليم عام 587 ق.م، وسموا أنفسهم “بلشتيم”، وهو تحريف لاسم فلسطين.
ويؤكد عدد من المؤرخين، أن مقدم اليهود نحو المغرب كان من بلاد الشام، ومنها تأسيس مدينة باسم آيث داود التي يزعم اليهود أن مؤسسها كان يهوديا، معتدين بانتشار الديانة اليهودية بين عدد من قبائل المغرب، منها غياثة ونفوسة وقندلاوة وبهلولة وبنو فازان، واستقر عدد كبير من اليهود بمدينة فاس بمنطقة زرهون. ثم الهجرة الثانية التي كانت مع الفينيقيين لما وصلوا أرض الإسبان والمغرب، فتوغلوا بين القبائل الامازيغية بفضل ما لاقوه من حسن المعاملة والمأوى، خاصة بين قبائل الأطلس الكبير وجنوب المغرب، وتمرسوا على التجارة نتيجة احتكاكهم بالفينيقيين، وكذا تعاونهم فيما بينهم كجماعات لها عقيدة لا وطن وتنتشر في مختلف أنحاء العالم. تليها الهجرة الثالثة خلال العصر الروماني في ق1م، حيث فر عدد غير قليل من اليهود من فلسطين بسبب اضطهاد الرومان لهم، ثم من مدن ليبيا، وبالتالي استقرارهم بين قبائل المغرب…، وروايات أخرى كثيرة لدرجة لا يمكن للباحث الوقوف عندها وإثبات صحتها ومصداقيتها، بحيث يبقى السؤال الملحاح قائما، وهو، لماذا كل هذا النسج لا منتهي لتاريخ مزعوم لليهود؟؟ لماذا يصر اليهودي على أن يجعل من نفسه شخصا مضطهدا، لا أرض له؟؟ لماذا الإصرار على تحويل اليهودية من عقيدة إلى هوية وشخصية؟؟ لماذا كل هذا السيل من الكتابات التي لا تنتهي، عن اليهود؟؟ ألم يكشف وعد بلفور واحتلال أرض فلسطين حقيقة الحكاية اليهودية؟؟ أسئلة كثيرة تتناسل وتؤدي لنفس النتيجة، أن لا حقيقة في الحكاية اليهودية. حكاية اليهود بدأت منذ الألف الثانية قبل الميلاد عندما قدم فرع من العبريين مع إبراهيم الخليل من وادي الرافدين، ونزل بأرض كنعان .. إلى ما تلا القصة من وقائع معروفة، ظل اليهود يجتهدون في إضافة العديد من الوقائع لها، منذ خروجهم من مصر مع نبي الله موسى، بسبب ما عثوا فيها من فساد واحتكار واستعلاء، واحتلالهم جزءا من أرض فلسطين وتنصيب ملك لهم اسمه شاوول الذي قتله الفلسطينيون حوالي 1000ق.م، وولوا بعده النبي داوود سنة 1015ق.م، وانقسامهم إلى يهودا وبني إسرائيل، وبناء الهيكل “الشهير” من طرف النبي سليمان بن داوود، الذي سيعاد بناؤه من جديد ويستمرون في البحث عنه تحت المسجد الأقصى … وجميعها وقائع معلومة … وصحيح أن اليهود برعوا في عدد من المجالات الفكرية والعلمية والاقتصادية والفنية والثقافية عامة، لكن ليس كيهود، وإنما كبشر، وليس بسبب انتمائهم العقدي، لأنه لو أخذنا بهذا الانتماء لوزعنا العالم إلى كل ما يعتنقه الناس من ديانات.
ما بعد موقعة الزلاقة
لا شك أن انهزام الجيش الموحدي في موقعة العقاب سنة 609هـ/1212م، كان له كبير الأثر على شبه الجزيرة الإيبيرية ومنطقة الشمال الإفريقي، لأن الهزيمة كانت تعني فقدان الأندلس وتغيير الخريطة الجيوسياسية التي صنعتها يد الإمبراطورية الموحدية، بكل ما أوتيت من قوة، على امتداد سنوات حكم خلفائها وأمرائها، حيث تحالفت كل الدول النصرانية، رغم العداوات والاختلافات القائمة بينها، لتشكل قوة ضاربة لجيش الموحدين، فكانت الهزيمة إعلانا عن عودة النصارى وانتشائهم بالانتصار عوضهم الهزائم المتتالية لعقود، منها موقعة الزلاقة 479هـ/1086م، ومعركة الأرك 591هـ/1159م، فتفككت الدولة الموحدية الممتدة الأطراف، وقد ساهم في انقسامها تأزم الوضع الداخلي، أو الوضع ما بعد الهزيمة، بسبب الصراعات بين الأمراء وضعف ولايتهم، على عهد إدريس المأمون ومنافسة المعتصم له على الحكم … فكان هذا الانحلال إيذانا بقيام كيانات سياسية أخرى، منها الدولة الحفصية على يد أبو زكرياء الحفصي، بإفريقية (شرق الجزائر وغرب ليبيا حاليا).
وكان طبيعيا أن يشهد الجنوب تغييرا، سوف يمس جميع مناحي الحياة، سياسيا واقتصاديا وجغرافيا، على مستوى رسم الحدود وتوزيع الغنيمة بين البلدان التي سوف تحتل دول جنوب الكرة الأرضية وتغرقها في التبعية فيما بعد، بمعنى أنها سوف تعيش حالة من العوز والضعف ستجعل أبوابها مفتوحة أمام الأطماع الأجنبية، لأنها لم تعد تمتلك تلك القوة التي وطنتها من قبل، ولو أنه بعد الموحدين نشأت دول أخرى قوية، منها المرينيين والزيانيين، لكن الأمر انفلت من يد المسلمين واتخذ وجهة تحكمها قبضة الصليبيين.
وسط هذا المناخ يمكن لنا تناول الدينامية البشرية على مستوى الانتماء العقدي، كاليهود والمسيحيين والمسلمين، إضافة إلى ديانات أخرى اعتنقها الأمازيغ سكان الشمال الإفريقي الأوائل الذين عمروا هذه الأرض، منها الديانة الوثنية، والملاحظ أن جميع هذه الديانات استمرت إلى الزمن الراهن، خاصة العقيدة الإسلامية التي تشكل ديانة ساكنة الشمال الإفريقي منذ قرون عدة، وهذا لا ينفي استمرار الديانات الأخرى بين أقلية من السكان في مختلف الدول الموسومة بالمغاربية، اعتقادا وممارسة بحرية كبيرة، على مستوى الشعائر وأماكن العبادات، ولو أن الوثنية انقرضت، لكن يمكن ملامستها من خلال العديد من الطقوس والعادات التي يقبل عليها سكان هذه الأرض عن غير وعي، داخل الأوساط الشعبية بالخصوص.
اليهود .. الإسلام وأهل الذمة
لا يمكن الخوض، أو البحث في تاريخ الشمال الإفريقي، على مستوى المجال والثقافة، والمغرب الأقصى كجزء من جغرافيا هذه البلاد الموسومة بأرض الأمازيغ، دون الاستناد إلى ثقافة الشعوب التي عمرت هذا المجال إلى جانب سكانها الأصليين، ونخص بالذكر اليهود الذين يعود استقرارهم بالمغرب الأقصى إلى العام 587 ق م، إذ كان مقدمهم مع التجار القرطاجيين، وهناك من يرد هجرتهم الأولى إلى العهد فينيقي حيث جاؤوا على متن السفن الفينيقية، ولو أن هذا القول لا يستند لحقائق تاريخية علمية، واستقروا بشمال إفريقيا وسط الأمازيغ سكان هذه البلاد في أمن وطمأنينة، لكنهم سوف يعانون مع الاحتلال الروماني بشكل كبير، وعندما دخل الوندال شمال إفريقيا سنة 429هـ، سارع اليهود لنصرتهم ومساعدتهم ضد الرومان، حيث انقلبوا على الرومانيين، لنصرة المحتلين الجدد، فشكل مقدم الوندال متنفسا لليهود في بداية الأمر، لكن سوف يعانون بعد ذلك مع نهاية العهد الوندالي واحتلال بلاد الأمازيغ من طرف البيزنطيين،وبعدها هربهم من شبه الجزيرة الإيبيرية في ق 16 م، بسبب محاكم التفتيش، وسقوط الأندلس سنة 1492 م، حيث عاشوا بين القبائل الأمازيغية وسط ظروف عادية، وقد قدر عددهم حينه بالآلاف. وحين جاء الإسلام نهاية القرن 7 م لشمال أفريقيا، ويروي الحاخام اليهودي والمؤرخ الجزائري، موريس أيزنبيث Maurice Eisenbeth، أن عدد اليهود الذي قدموا مع المسلمين، ومع عقبة بن نافع الفهري، إلى شمال إفريقيا، كان بالمئات، وقد جاؤوا بمحض إرادتهم، حيث قام عقبة بتعمير القيروان بحوالي 1000 عائلة من الأقباط واليهود المصريين تمت معاملتهم من موقع أهل الذمة، ثم تحسن وضعهم خلال عهد المرابطين، إذ تقلدوا العديد من المناصب الرفيعة في دواليب الدولة، ليتدهور وضعهم مع الدولة الموحدية شأن المسيحيين، لكن مع قيام الدولة المرينية سوف تنمو جالية كبيرة بمراكش وتتعاطي التجارة، ناهيك عن الحرف التي كانوا يمارسونها بشكل عادي، دون أن يفصل أحد بينهم وبين بقية سكان المغرب، حيث كانت لهم مزاراتهم ومعابدهم التي يمارسون فيها شعائرهم، ثم مساكنهم الخاصة والتي عرفت باسم “الملاح”، والتي تنتشر في عدد من مدن المغرب، منها الصويرة وفاس وصفرو ودبدو …، ومعلوم أن إنشاء “الملاح” يتم بظهير ملكي … واستمرت المعاملة الحسنة لليهود مع الدولة السعدية ثم العلوية…
لا يمكن الحديث عن التعايش بين المسلمين واليهود بالمغرب، دون الوقوف عند هذه العلاقة التي تراوحت بين السلم والتوتر، خاصة بعد إنشاء الكيان الصهيوني واحتلال فلسطين، وحرب 1967م، وبالتالي الهجرة الكبيرة التي عرفتها شريحة اليهود نحو الدول الأوروبية، ونحو فلسطين، وهي هجرة ربما حكمها هاجس الخوف، وجعلت عدد اليهود يتراجع بشكل ملحوظ، ويذكر في دبدو أن آخر أفراد هذه الجماعة استمر إلى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لتستمر فيما بعد بنايات “الملاح” والمقبرة، والعديد من الذكريات يرويها ساكنة دبدو بنوستالجيا مؤثرة.
لا يمكن أيضا الحديث عن يهود المغرب دون الوقوف عند تواجدهم الكبير بدبدو، حيث أنه في لحظة ما فاق عددهم عدد المسلمين، وقد كانت دبدو مزدهرة على عهدهم على مستوى التجارة… بل إن التجمع اليهودي بالمغرب كان الأكبر من حيث العدد مقارنة مع باقي البلدان العربية، ليتراجع هذا العدد بشكل ملحوظ مع احتلال أرض فلسطين وتأسيس الكيان الصهيوني في 1948م، حيث سيهاجر هذا الكم من اليهود إلى فلسطين، وهذا يدل على نشاط الحركة الصهيونية وأجهزة المخابرات، خاصة الموساد لتفعيل عجلة الهجرة، أو تهجير اليهود من المغرب، كما هو الحال من بلدان أخرى، خاصة بعد هزيمة 1967م وبدعة “أرض الميعاد”، وجدير بالذكر أن الملك محمد الخامس تصدى لقانون حكومة فيشي القاضي بترحيل اليهود، حيث اعتبرهم مغاربة وهو ملكهم … وقد عرف اليهود بالمغرب تحت اسمين، هناك المغوراشيم، أي اليهود الذين طردوا من الأندلس، وقبلهم الطشابيم، أي اليهود الأصليون الذين سكنوا المغرب قبل الميلاد.
لا يمكن أيضا نكران القول بأن استقرار اليهود بمنطقة الشمال الإفريقي عامة، كان بسبب الموقع الجغرافي المتميز لهذه البلاد، وأيضا على المستوى الاقتصادي، والأهم من كل هذا، الأمان الذي شعر به اليهود عند استقرارهم ببلاد الأمازيغ، من الطيبوبة والمعاملة الحسنة، والرعاية والتضامن، الشيء الذي جعل تجارتهم تزدهر، وكذا الحرف التي نشطوا وكانوا يزاولونها، وتتسع دائرة علاقاتهم ونفوذهم، فكان طبيعيا أن يتزايد عددهم ببلدان شمال إفريقيا، بالمغرب والجزائر على الخصوص، واختلاطهم بالأمازيغ لا يمكن تفسيره بكون الأمازيغ قد اعتنقوا الديانة اليهودية، كما يحاول بعض من يكتب تاريخ هذه المرحلة أن يتوهم ويوهم القارئ بنافلة القول هذه، لأن الأمر لا يعدوا نوعا من التعايش، علما أن الشمال الإفريقي ظل محط أطماع شعوب ودول، بداية من الفينيقيين إلى العرب، وإلا كيف نفسر اعتناق سكان هذه المنطقة العقيدة الإسلامية رغم مقاومتهم لها ردحا من الزمن ليس بقليل، ولم يرد ذكر مقاومة اليهود للإسلام، بل إن مقاومة الأمازيغ كانت للمسلمين الذين استباحوا الأرض والعرض، ولم تكن مقاومة ضد الدين الجديد، ويمكن في هذا الصدد العدوة لما فعله الولاة الذين تعاقبوا على تدبير شأن بلاد الأمازيغ … فلم يكن من السهل أن يتخلى الأمازيغ عن وثنيتهم ومسيحيتهم لاعتناق اليهودية. ثم إن عددا غير قليل من اليهود اعتنقوا الإسلام.
من هو اليهودي؟
لا يمكن تعريف اليهودي، اعتبارا للتنوع الحضاري وانعدام التجانس العرقي، فهناك اليهودي الإشكنازي الأبيض، والسفارد والفلاشاه؟؟ وقد وحدهم قانون العودة الصهيوني للاستيطان بأرض فلسطين المحتلة. فالتمسك بالإحالة على المسألة اليهودية ذات أهمية بالغة، لأن الكيان الصهيوني يعتبرها مصدر شرعية لتبرير اغتصاب أرض فلسطين والتنكيل بأهلها، ومن هنا جاءت مقولات عائمة، منها، “الشعب اليهودي”، و”الهيكل الثالث”.
لهذا لا يمكن الاكتفاء بتعريف اليهودي انطلاقا من مرجعيته الدينية، فالديانة اليهودية ليست كافية للفصل بين اليهودي وممارساته تجاه الشعب الفلسطيني، حيث يصعب الفصل أو التصديق أن هناك مسافة بين اليهودي والصهيوني الماسوني، ناهيك عن تموقع اليهود في مراكز قرار عالمية، وبسط نفوذهم على الاقتصاد والإعلام والسينما والكتابة، وتغلغلهم في كل صغيرة وكبيرة تخص الشأن العالمي، وإذكائهم لنار الفتنة والحروب. فلا يمكن الجزم أو التصديق بمزاعم اليهودي مهما بلغ من التعفف، علاوة على الماضي التاريخي الذي يشهد على أفعال اليهود ومكرهم، لهذا ترسخت بين الشعوب عدد من الأفكار عن ممارسات اليهود وتحايلهم، حتى في كتابة تاريخهم وتراثهم، الشيء الذي يجعلهم بعيدا عن ثقة الآخر.
هكذا نجد الحركة الصهيونية تطلب من اليهود الالتفاف حولها ودعمها، باسم الهوية اليهودية المزعومة، لهذا يسعى الصهاينة إلى طمس الآثار الفلسطينية وتغيير أسماء الأماكن وتزوير تاريخ الأرض التي يحتلونها، من خلال انتهاجهم سياسة التهويد.
كما يجب التنبيه لنشاط جهاز الموساد خلال هذه الفترة، أي خمسينيات القرن الماضي بمختلف بلدان العالم، ومنها المغرب اعتبارا للجالية المهمة من اليهود التي استقرت في أمان بين المغاربة، عدا بعض الفترات التي تعرض فيها اليهود للمطاردة، لكنهم نشطوا تجاريا واجتماعيا وتسربوا إلى دواليب وأجهزة القرار بالدولة المغربية إلى الزمن الراهن.
لكن في المقابل، نجد بعض الممارسات لطوائف يهودية تشد الانتباه، فتبدو قائمة على قيم إنسانية، تسعى للتسامح والسلام والأخلاق التي يدعو لها الإسلام أو المسيحية، ومنها طائفة اليهود الأرثوذوكسيين الذين يفرضون على نسائهم وبناتهم ارتداء ملابس محتشمة وفضفاضة، ويغطين شعرهن، ولا يخالطن الفتيات السافرات، ولا يختلطن بالرجال في الأماكن العامة والمدارس والجامعات، لكن هذه المظاهر لا تنفي حقيقة اليهود التي تبدو ملتبسة التعريف بسبب تعدد الشخصيات اليهودية والهويات اليهودية، باعتبار أن الهوية والشخصية تخص جماعة من البشر عاشوا ظروف تاريخية وبيئية ثابتة خلال فترة ممتدة من الزمن، وهو ما لم يخضع له اليهود، وبالتالي يصعب الحديث عن هوية أو شخصية يهودية واحدة، إذ هي جماعات انتشرت بين مختلف بلدان العالم، مثل الشخصية اليمنية اليهودية نهاية ق 19م، أو الشخصية الخزرية اليهودية في ق 9م، أو الشخصية الأشكنازية في فلسطين المحتلة، والسفاردية ذات الأصول السورية في أمريكا اللاتينية، وغيرها، والأمر يتعلق بتعدد الشخصيات حسب الحمولة الثقافية لكل فئة انطلاقا من قناعاتها والأماكن التي عاشت فيها، وهو ما اجتهدت الحركة الصهيونية العالمية لتذيبه، من أجل إقناع العالم بوجود شخصية أو هوية يهودية، وهو أمر أقرب للاستحالة مع توالي الأحداث التي يشهدها عالم اليوم، وما يلحقه الصهاينة من دمار وتخريب للقيم الإنسانية.
وسوف يلاحظ المتتبع، والعامة على حد سواء، أن اليهودي يشد الانتباه، من خلال تواجده في موقع يخول له ذلك، بفضل الذكاء والدهاء، فتكون النتائج أكثر سلبية وغم الوجه الإيجابي فيها، لأن اليهودي لا يقدم خدمة مجانية، بمعنى أن لا ثقة فيما يقدمه اليهودي، لأن نشاط الحركة الصهيونية عالميا، خاصة مخطط الاحتلال لأرض فلسطين والعمل على تهويدها، إلى التحكم في مصائر الشعوب، من خلال اليد الطويلة لأمريكا، لدرجة يصعب معها الفصل بين الصهيوني واليهودي والإسرائيلي، بحيث تعمل الحركة الصهيونية على صناعة العديد من رؤساء الدول وزعزعة استقرار البعض منها، والقيام بعدد لا حد له من الاغتيالات في حق شخصيات عربية …
ويعود المشروع الصهيوني إلى العام 1840م، خلال انعقاد المؤتمر الأوروبي في بريطانيا، حيث تم خلاله تقديم وثيقة عرفت باسم “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، من طرف اللورد شافتسبري Shaftesbury الإنجليزي، وأحد منظري الحركة الصهيونية، يقوم في البداية على تجميع اليهود بأرض فلسطين، وهو المشروع الذي لقي الدعم من طرف حكومة بريطانيا آنذاك، من خلال وزيرها في الخارجية هنري جون تيمبل Henry John Temple الذي عمل على إنشاء ما يشبه كومنولث Commonwealth يهودي بجنوب سوريا، وكانت إنجلترا أول دولة تفتح قنصلية لها بالأراضي المحتلة في فلسطين معترفة بالكيان الصهيوني. ثم ظهر للمشهد العالمي من يدعم أفكار شافتسبري، مثل، ديفيد بن غوريون، وزئيف جابوتنسكي، وليوبولد أميري، وحاييم وايزمان، وتيودور هرتزل، وغيرهم، لتتضح معالم الفكر الصهيوني الماسوني، الرامي للهيمنة على العالم ورسم خريطة جديدة، لأن فترة الاستعمار التي مرت بها بلدان الجنوب أكدت إمكانية تعديل الخريطة الجغرافية بين عدد من البلدان، من خلال رسم حدود جديدة حسب ما تقتضيه مصالح وطموحات الدول الاستعمارية، حيث استطاعت هذه الدول زرع ثقافتها لتستمر بعد منح الاستقلال الشكلي للبلدان المستعمرة، على مستوى اللغة والبرامج التعليمية والتبعية الاقتصادية، وهيمنة المؤسسات المالية الدولية. فالحركة الصهيونية تستفيد من التاريخ لتصنع لنفسها تاريخا بالقهر والدسيسة والحروب والتحالفات وإذكاء نار الفتنة بين الأنظمة العربية الهشة الفاقدة للشرعية والمصداقية، وتفشي الفقر والبطالة والأمية والجهل بين شعوبها.
وتعتمد العديد من الأدبيات الصهيونية، الغربية على الخصوص، على فكرة القومية من خلال استحضار تجربة يهود شرق أروبا، في بولندا وروسيا، وهم المعروفون ب”اليديشية”، وهم يشكلون حوالي 80% من مجموع يهود العالم، وهي فكرة قوبلت بالرفض من طرف اليهود أنفسهم لتتبخر وسط المجتمعات التي ينتمي إليها اليديشية أنفسهم في روسيا وبولندا وأمريكا وألمانيا وفرنسا وأوكرانيا وإنجلترا …
كانت الديانة اليهودية، في العصور القديمة، توحيدية وسط محيطها الوثني، لتتحول في العصور الوسطى، فقد نأت بجانب مختلف عن المسيحية والإسلام، فأنتجوا التلمود، ليصبح نسب اليهودي إلى أمه، بالمعنى الإثني، أو من تهود، بالمعنى الديني، وأمر الهوية، أو الهويات اليهودية، أثار جدلا كبيرا بين علماء اليهود أنفسهم، وهو ما يجعل اليهود يعيشون تعدد المرجعيات العرقية والإثنية والإنسانية ذات الأنساق الدينية المتعارضة. وسعت الحركة الصهيونية لتوطين تعريف معاصر لليهودي، وهو “اليهودي الخالص” في صيغة لا دينية، بمعنى أن زمن “يهودي المنفى” و”الشتات” قد انتهى، وذلك من خلال تشكيل الدولة الصهيونية والإيذان بنهاية الحقب التاريخية الماضية، وقيام كيان سياسي، حسب المخطط الصهيوني، بكل مقومات الدولة الحديثة، وهو أمر لن يتحقق بهذه البساطة، لأن حلقات التاريخ متماسكة، ولا يمكن بناء دولة من الوهم، عبر إزالة حلقة من التاريخ الإنساني وتعويضها بحلقة أخرى مصطنعة ومزيفة.
اليهود أصل البلاء
لا يكاد يخلو ذكر اليهود من إثارة مخاوف واشمئزاز المستمع، فيتخذ الحيطة والحذر من رواية اليهودي والتعامل معه مهما صدق. وقد عانت دول اوروبا من دسائس اليهود أكثر من غيرهم، لنهم فعليا يستحوذون على دواليب الاقتصاد العالمي، وعلى سراديب السياسة الدولية هكذا انبرى عدد من المفكرين يكتبون عن معاناة البشرية من سلوك اليهود وثقافتهم، الشيء الذي يطرح السؤال، لماذا ظلت كل المجتمعات تعمل على التخلص من اليهود؟ ولعل أول من فهم حقيقة اليهود وأطماع الصهاينة هما مصر وفرنسا، مصر لاعتبار الحدود والمخطط الصهيوني لتهويد مصر وما تلاها والتواجد اليهودي بمصر كقاعدة لتمرير سياسة الصهاينة والعين على فلسطين، إذ لا يمكن الاستغناء عن مصر في المعادلة الصهيونية، لأن مصر هي مفتاح العبور نحو احتلال أرض فلسطين، أما فرنسا فشأنها شأن بقية البلدان الأوروبية التي استخدمها اليهود كقاعدة اقتصادية للاستثمار وجمع المال وحشد الدعم في المحافل الدولية، والاستحواذ على الإعلام والتموقع في مراكز القرار، من خلال التدخل في الشأن السياسي واختيار الرؤساء، وهو ما حققته الحركة الصهيونية أيام “بن غوريون” وصفقات الأسلحة التي أبرمتها مع فرنسا خلال منتصف الخمسينيات، وصولا إلى العدوان الثلاثي على مصر والضفة والقطاع، ثم الدور الخطير الذي لعبته الحكومات الإنجليزية لصالح الحركة الصهيونية، والدور الذي لعبته الدول العربية على مستوى قياداتها وحكوماتها في دعم الحركة الصهيونية من خلال الصمت والتخاذل والتحالفات السرية والعلنية …
عرفت الجزائر، إبان فترة الاحتلال الفرنسي، انتهاكات جسيمة من طرف اليهود تجاه الشعب الجزائري، فكانوا أول من لاذ بالفرار، عندما نزلت القوات الفرنسية بسيدي فرج، بقيادة DE BOURMONT، وتحالفوا مع المستعمر وشرعوا في الانتقام من المسلمين الأتراك والاستحواذ على ممتلكات الجزائريين والوشاية بهم، واعتبروا الفرنسيين محررين لليهود.
ادعاء النبوءة من خبايا اليهود ..
لعل أبشع ما فعله اليهود ضمن مشوارهم في الحياة، حتى لا نقول تاريخهم، هو ادعاؤهم النبوءة، وزعمهم أن المسيح أو المشيح، هو المخلص لبني إسرائيل، الشيء الذي جلب عليهم ويلات كثيرة حتى من ذويهم. ولعل أخطر ما نجح فيه اليهود هو ما أقدمت عليه طائفة يهود “الدونمة”، المتغلغلة في المجتمع التركي، وهم فئة جمعوا بين ادعاء الإسلام والعقيدة اليهودية، فكانوا يتظاهرون بالصوم نهارا ويحجون البيت الحرام ويذبحون في عيد الأضحى، واحتلوا مناصب داخل البرلمان التركي، فشكلوا جماعات ضغط، بعد أن قدموا بداية من إسبانيا ليعاملهم الأتراك معاملة أهل الذمة عبر التعايش السلمي، فصارت لهم مكانة اقتصادية قوية داخل البلاد، وهم المتشبعون بتعاليم “شبتاي زيفي”، الأب الروحي لهم، والذي ادعى النبوءة، حيث زعم أنه المسيح المنتظر سنة 1648م، ولو أن رئيس الحاخامين في أرمين بتركيا “جوزيف إيسكابا” هو وطائفة معه وقفوا في وجه مزاعم “سبتاي”، أو شبناي، دون جدوى …
وأتباعه هم “الدونمة” أو “السباتيون”، وتسمية “الدونمة” تركية، تعني الراجع أو العائد، أطلقها عليه الأتراك كونهم “العائدون إلى دين الحق”، وقد شكلت واقعة أخذ النبي المزعوم “شبتاي” إلى المحاكمة والإعدام لم يكن يتقن اللغة التركية، فأحضروا له مترجما يتقن اللغة الإسبانية، وكان هذا المترجم يهوديا اعتنق الإسلام، وهو الذي أنقذ “شبتاي” من الإعدام حين نصحه باعتناق الإسلام، وكان يحدثه بالإسبانية دون ترجمة، فرفض “شبتاي” الاقتراح، لكن المترج ألح عليه بالتظاهر بالإسلام والاحتفاظ بمعتقده اليهودي، وبالتالي اقناع أتباعه بذات السلوك كونهم يثقون به، فأعلن “شبطاي” إسلامه، وفي رواية أخرى، فإن السلطان محمد الرابع عرض على “شبطاي” الإسلام، فادعى الإسلام لينجو من الموت، وأتخذ اسما جديدا هو “محمد عزيز أفندي”، ومن بعده ادعى يهودي آخر النبوءة، اسمه الحاخام “ناحيم كوهين”، وهكذا تشكلت طائفة يهود “الدونمة” بتركيا، وحظيت بالعديد من الامتيازات، واحتلقوا لأنفسهم العديد من الطقوس والعياد والمناسبات، جميعها للتميز وإثارة الانتباه، الشيء الذي يحمل الكثير من الدلالات، منها غياب عقيقة عبادات اليهود وعدن ثباتها على حال، ثم استعدادهم للتحول ومسايرة الوضع الذي يتواجدون فيه ولو قسرا، إذ لا ثبات عند اليهودي، فالثابت عند طوائف اليهود هو زعمهم “بأرض الميعاد” وتأسيس “دولة”، وهو ما تتولاه الحركة الصهيونية العالمية باحتلال أرض فلسطين، ولو اقتضى الأمر تزوير الحقائق التاريخية الادعاء، فمنذ وعد بلفور إلى الزمن الراهن اتخذوا القدس عاصمة لكيان مزعوم ومغتصب، فالصهاينة لهم المال والإعلام والمكر والدهاء والمراوغة والمراكز السياسية في مختلف دول العالم، ولعل سياق الكلام هنا يفرض علينا الاستشهاد بثورة “تركيا الفتاة” التي كانت قيادتها العميقة من اليهود ومن طائفة “الدونمة” التي يزعم أصحابها الإسلام، ونجحوا في تأليب الرأي العام والشباب بالخصوص، وتغيير الدستور، ونخر جسد الدولة التركية(يمكن الاطلاع على العديد من الكتابات التي تؤرخ لتلك الفترة، والصراع على الحكم، وإزاحة السلطان عبد الحميد … ، لدرجة يصعب فيها تمييز الطيب منهم، فالأمر لا يتعلق بحرب عقائدية، في نظرنا، بقدر ما هو حرب هيمنة وإثبات للذات وفق مخطط يحتل العالم برمته، وقد شحنت لذلك الوسائل والبشر والمال لتنزيل هذا المخطط وتوطينه، وفق خريطة أضحت تتضح معالمها منذ مدة ليست بقليلة، من خلال الاستحواذ على ثروات النفط، وإخضاع البلدان العربية للهيمنة والتبعية السياسية، وضرب كل بلد تثاقل في التفاعل مع المخطط الصهيوني العالمي، مثل العراق وسوريا، وإشعال نار الحرب بين هذه البلدان لاستنزافها مادية وبشريا، وخلق منظمات وهمية على أساس أنها إرهابية، مثل “القاعدة” و”داعش”، والتي يسهل حفظ وتذكر أسمائها وأسماء “زعاماتها”، وما إلى ذلك من السيناريوهات المحبوكة التي تنم عن ذكاء خارق وخبيث، نجح لحد بعيد في خلق توتر مستمر داخل بلدان العالم، ولو اقتضى الأمر فبركة أحداث شتنبر 2011م … والأمثلة كثيرة في هذا الصدد، تجد مسرحا لها بأمكنة محددة من العالم.
محمد حماس