رمضان وجنون التسوق بالمغرب
ذ. الكبير الداديسي
ما أن يهل شهر رمضان حتى يشعر الإنسان المغربي والمسلم عامة بتغير جدري في نمط حياته : من حيث النوم ، الأكل، الشرب ، التسوق ، وتتغير بحسب ذلك سلوكات الناس وعلاقاتهم مما يسمح بتعدد أوجه مقاربة تفاعل المغربي /المسلم مع هذا الشهر الفضيل ؛ فنجد الطبيب يتحدث عن الأمراض والصوم ، والأنتروبولوجي يركز على العادات والتقاليد التي تصاحب هذا الشهر ، والرياضي يتناول قضية الرياضة والصوم ، ورجل الدين يدعو إلى الإكثار من العبادة ، قراءة القرآن في شهر رمضان ….
ونحن في هذه السلسة من المقالات سنترك التخصص لأهله فلسنا من الأطباء ، ولا من علماء الدين .. لذلك سنحاول مقاربة بعض القضايا والظواهر التي تميز رمضان في المغرب و تعم المجتمع المغربي خلال الشهر الفضيل والتي لا تحتاج لأي تخصص لتدركها العين : فكما تعج المساجد بالمصلين والمقاهي بالزبناء ، والأسواق بسلع خاصة بالمناسبة … يعج المجتمع بظواهر اجتماعية منها المتوارث عبر سنين نقلها السلف للخلف وغدت جزءا من هويتنا الثقافية ومنها ما فرضته سنة التطور وغدا المجتمع يتكفها وتنصهر في دواليبه ويُمَغْـرِبُها ليجعها جزءا جديدا من تلك الهوية الثقافية
وستتخذ هذه السلسة طابع التدرج الزمني لنواكب شهر رمضان وستكون الفاتحة بما يميز المغرب قبيل هذا الشهر مركزين على جنون التسوق ، وتسابق الناس على البضائع والسلع الرمضانية بصورة قد تفاجئ أي زائر للمغرب قد يعتقد معها بقرب نفاد البضائع ، أو أن هناك كوارث قادمة تفرض على المغاربة تكديس السلع في المنازل قبل حلول الكارثة …
صحيح أن الأسواق تخضع لقانون العرض والطلب، لذلك تتميز الأسواق المغربية بالموسمية فتغير معروضاتها من السلع البضائع حسب المواسم، فما يعرض قبيل عيد الأضحى مختلف تماما عما يعرض في عاشوراء ، وما يعرض في هذه مختلف عما يعرض في الدخول المدرسي لكن يبقى للأسواق المغربية في رمضان وقبله بقليل طابع خاص من حيث المواد والروائح والألوان والأصوات وذلك ما يسم المغرب ويفرده…
فإذا كانت تتردد بين الناس عبارات وأحكام قيمة حول ضعف القدرة الشرائية في المغرب ووجود نسبة كبيرة من السكان تحت عتبة الفقر، فإن المتردد على الأسواق قبيل خلال شهر رمضان يجد نفسه مجبرا على أعادة النظر فيما يتداول بين الناس وفي الصحافة الوطنية والدولية، ليقنع نفسه بإمكانية أن يبض الطير أكبر من حجمه ، فبالإضافة للأسواق المعهودة، والمراكز التجارية بالمدن يتم استحداث أسواق عشوائية موسمية في الأزقة والدروب ، وقد يتم الترامي على عدد من الشوارع والطرقات وتحويلها إلى أسواق لعرض البضائع مما يعتقد معه ذلك المتردد بأستحالة استهلاك كل ما يعرض…
وإذا كانت الأسواق الممتازة المكيفة تفتح أبوابها منذ الساعات الأولى للنهار حتى ساعات متأخرة من الليل واصبحت تستقطب عددا هاما من الزبائن لما يجدون فيها من تنظيم وفضاءات مكيفة تقيهم لهفة الشمس الحارقة نهارا .. فإن الأسواق التقليدية والعشوائيات لا زالت تحافظ على اكتظاظها وصخبها وما يميزها من وشجار ، ومساومة وصراخ الباعة وأحيانا نشل وسرقة وكل ظاهرة تحتاج لدارسة خاصة
إن الزائر للأسواق المغربية يفاجأ بإقبال المغاربة على التسوق والتبضع بلهفة من يستعد لسفر طويل أ أو عزلة تامة فيكثر الإقبال ويتزايد على منتوجات معينة وقد سهلت الرأسمالية وانفتاح السوق وتحريره كل السبل، فهنا صيحات عن تخفيضات مغرية وهناك تسهيل للقروض وهنالك إقامة لمعارض تجارية ، ورغم تعدد فضاءات البيع، فالناس طوابير أمام صناديق الأداء بكل المساحات التجارية
ما يميز هذا الجنون هو تسابق عدد من المغاربة على تغيير طواقم الموائد من أكواب ، مقالي ، كؤوس ، طناجر ملاعق وكأن المنازل كانت بدون تجهيز طيلة السنة والمغاربة ينتظرون هذا الشهر لتغيير أطقم الأواني ، ويشهد هذا الشهر تزايدا ملفتا في الإقبال على تجهيزات المطبخ من ثلاجات ، غسالات أواني لأن ما تحلفه موائد الإفطار من أواني تحتاج النظافة أصبح فوق طاقة النساء خاصة الموظفات والعاملات منهن ، كما يكثر الإقبال على الأفرنة الغازية و كهربائية ما دام شهر رمضان يتطلب تحضير الكثير من الحلويات و(الشهيوات) المغربية فتضيق الثلاجات عن استعاب ما يحضر وما يقتنى لذلك يجد عدد كبير من المغربة أنفسه مجبرون على اقتناء ثلاجات أو مجمدات جديدة ..
وبما أن معظم الأسر تهوى السهر ومتابعة البرامج التلفزية إلى طلوع الفجر فإن بيع أجهزة التلفاز يحطم أرقام المبيعات خلال هذا الشهر خاصة وقد وأن شهر رمضان يصادف هذه السنة بطولتين كرويتن كبيرتين بطولة أوربا للأمم ، وبطولة أمريكا الجنوبية التي تجرى مباراياتها في وقت متأخر من الليل ..
دون أن ننسى اللهفة في الإقبال المعتاد على التوابل التي تميز الطبخ المغربي ن والحلويات المرتبطة بالمناسبة وما يتعلق بها من مستحضرات ( فواكه جافة وطرية ، سكاكر، سمسم، لوز جوز..) التي تحول المنازل والمحلات لخلايا نحل لا تنام من أجل توفير متطلبات هذا الشهر الكريم ، وتحيل الإنسان المغربي كائنا استهلاكيا بامتياز
اليوم عندما يزور المرء هذه الأسواق المغربية التقليدية والعصرية يرى نساء ورجالا يحملون كميات كبيرة من التوابل والحليب ومشتقاته والفواكه والخضر ، ومنهم من يحمل أطقما للأواني من المقالي والكؤوس والطناجر .. وكأن هذه الأسر لم يكن لديها شيء من الآواني قبل رمضان ، ويفاجأ لهذا الإقبال المتزايد على التبضع والسباق الماراطوني المحموم على الشراء وكأن الدنيا على شفير حرب نووية ، أو على شفير عاصفة ثلجية ستضرب المدينة وقد تستمر لشهور ، والناس يخافون من انتهاء المؤن، أو انقطاع المواصلات وتوقف سبل التموين
وإذا كان الإقبال على بعض تلك المواد أصبح يبدو عاديا ومألوفا للمغاربة قد يكون من الغريب إقبال الناس على أصناف غير مألوفة ،تجعل المشاهد يتساءل لماذا يقبل عدد من الناس على شراء تلك الكميات الهائلة من المياه المعدنية والمشروبات الغازية ، وعلب الأغذية المصبرة والمأكولات الجاهزة … وكأن لديهم دكاكين بقالة يريدون تصريف تلك البضائع من خلالها.
وما أن ينتهي هذا التسابق المحموم في العشر الأوائل من رمضان حتى يشتعل جنون آخر وتسابق في العشر الأواخر نحو الملابس الجاهزة ، والملابس التقليدية للرجال والنساء والأطفال .. والإعداد لعيد الفطر ليجد المغربي أينما وجه وجهه تزاحما واكتظاظا ، لينطلق ماراطون آخر نحو الكتب المدرسية والدخول المدرسي ، ليبدأ المغاربة الاستعداد لعيد الأضحى ومستلزماته…. ورغم كثرة التشكي والتذمر من الإفراط والتبذير في الاستهلاك خلال رمضان وصعوبة توفير المصاريف الكفيلة بتغطية كل تلك النفقات وارتفاع تكاليف الحياة ..فلا أحد من المغاربة يتخلف عن هذه المناسبات ، ولا يكاد يحلو بيت من تحضير مبالغ فيه بشكل يجعل مصارف هذا الشهر أضعاف المداخيل مما يطرح عدة أسئلة حول كيف يتمكن المغاربة من مجاراة كل هذه المناسبات المتلاحقة ؟؟ وكيف يدبرون مصاريفهم ؟؟
هذه الحملة الشرسة على التبضع التي تصاحب رمضان تقدم صورة مغايرة عن المغرب ، الذي يوجد عدد كبير من سكانه تحت عتبة الفقر، ويعجز عدد من سكانه في تأمين لقمة العيش لأسرته، مما يستلزم معه القيام بدراسات علمية حول الاستهلاك بالمغرب ، والاستهلاك في رمضان خاصة.. والأكيد أن الدراسة قد تكسر كل مقاييس المعتادة في الاقتصاد ليكتفي القول إنه جنون التسوق جنون يفوق ما هو متعارف عليه في الغرب في بعض المناسبات كأعياد الميلاد (الكريسماس) لأن جنون التسوق في رمضان يتداخل فيه الديني بالاجتماعي والموروث ثقافيا بالمستحدث جنون يجعل الطيور تبيض أكبر من حجمها، جنون يجعلك تصدك أن ما يستهل في حوالي عشر ساعات أكبر بكثير ما كان يستهلك في 24 ساعة جنون يجعل الإنفاق أكثر من المداخيل جنون يجعل الكثير من السلع والبضائع تقتنى و يستفاد منها .. جنون يجعل الكثير من الوجبات والمأكولات التي كلفت جهدا ومالا ترمى مع الفضلات و الأزبال في بلد يصنف عدد كبير من سكانه من الفقراء … أنه الجنون والجنون لا منطق له!!!