الأستاذ أنس الملحوني والتوثيق للظاهرة الغيوانية من خلال شخصية الفنان أحمد الباهري
خلال تنظيم فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان الملحون والأغنية الوطنية المنظم في الفترة الممتدة من 22 إلى 26 أكتوبر 2024، صدر للأستاذ الباحث أنس الملحوني كتاب يوثق لسيرة الفنان المبدع أحمد الباهري – احميدة، وقد جاء الكتاب موسوما ب: “احميدة الباهري … رحلة نغم” فارس من ذاكرة الأغنية الغيوانية – سيرة فنية 1972 – 2016 ، الكتاب من القطع المتوسط، جاء في 288 صفحة، وقد عملت المطبعة الوطنية بمراكش على إخراجه، وتفضل الدكتور محمد الكنيديري، رئيس جمعية الأطلس الكبير بطبعه، مساهمة منه في تثمين فكرة التوثيق لأعلام مدينة مراكش.
الأستاذ الدكتور عبد العزيز ابايا يقدم قراءة في هذا الكتاب جاءت كما يلي:
في المقدمة
قيل قديما: “من ورخ لمؤمن فكأنما أحياه”، هذه العبارة التي رقاها غير واحد من المحدثين إلى مرتبة الأثر النبوي، تتضمن معنى عميقا يتجاوز مجرد سرد نمطي لأحداث عاشها رجل أو امرأة في حقبة تاريخية معينة، بل إلى التنبيه على تراث غني متراكم عبر التاريخ شكلته أيادي رجال في مختلف المجالات لتبني وطنا وهوية أصيلة سارت مسير التقديس.
إن التعريف بالرجال وبالشخصيات وإبراز تراثهم، هو في الحقيقة تعرف بشكل جزئي على مجتمع وهوية ومقدسات هي سمات صميمة للوطن بكل تفاصيله، ومن هنا أمكن القول إن التعرف على الشخصيات هو من صميم التعرف على الوطن، ومن هذا المنطلق بالذات تنبعث فكرة هذا الكتاب الذي ألفه الأستاذ والإعلامي الفذ أنس الملحوني، متناولا شخصية الفنان المتعدد أحمد الباهري ذي المهارات الفنية المتنوعة والذي كانت بصماته خفية في العديد من البرامج الفنية التي كنا نتابعها منذ الصغر، فهو عازف متقن على العديد من الآلات الوترية، مثل البانجو والقيثارة، والمندولين، والعود، والبزق، كما أن في مساره الفني أكثر من أربعين عملا غنائيا، ومشاركة في إنتاج موسيقى ثلاثة سيتكومات، والعديد من الوصلات الإشهارية، وموسيقى لبعض الأفلام السينمائية.
وعلى الرغم من مواهبه الفنية المتعددة، ومشاركته الفعالة في إنشاء العديد من الفرق الغنائية في إطار ما بات يسمى بالظاهرة الغيوانية، فقد لاحظ الأستاذ أنس الملحوني أن “كل إصدارات الرجل لم تُوثق، ولم يعمل – حاليا – على مشاركتها على نطاق واسع مع جمهور المولعين والشباب الذي لازال يعض بالنواجذ على فلسفة هذه المجموعات الغنائية”. وإلى جانب المشاركة والإشعاع الفني، لاحظ الباحث أنس الملحوني أيضا أن الكتابة والتوثيق عن هذه الشخصية منعدمة تماما، وهو ما أثار استغرابه وتأسفه في آن واحد.
وكعادته في جملة أعماله التوثيقية، يتحرى الأستاذ أنس الملحوني موقع الاقتراب التام من موضوعه، ويحدد بدقة الأسئلة التي يشتغل عليها، ويتقصى مناطات التناول فيها، فجاء هذا المؤَلف التوثيقي العالي الدقة عن شخصية مبدعة تستحق الاهتمام؛ ولعل دقة الموضوع، ومصداقية المعلومات المعلنة فيه، زيادة على جِدته، كانت من أهم سمات الكتابة لدى الباحث الملحوني في هذا المؤلف.
وإذا كانت المقدمة كعتبة بنائية تنشد التعريف بالموضوع المراد التطرق إليه، وأهمية البحث العلمي فيه، وعن الأسباب الموضوعية الدافعة إلى اختيار الموضوع، فإن المؤلِّف آثر – عن طواعية – وضع عتبة ذاتية يمتزج فيها الوجدان بعلاقة الصداقة التي تجتمع المؤلِّف والمؤلَّف له، ومن هنا ابتدأت المقدمة بتبيان العلاقة التي تجمع بين المؤلِّف والفنان أحمد الباهري منذ عشرينيات هذا القرن من خلال حفل فني أبهر فيه “احميدة” متابعيه بحسن أدائه على آلة البانجو، وبتعدد الأدوار الفنية التي أداها ونسقها، وما لبثت هذه العلاقة أن تطورت بعد استضافة الأستاذ أنس الملحوني للمترجَم له في مجموعة من البرامج الإذاعية ابتداء ببرنامج “نَادِي الفُنُون” في الفترة الممتدة بين عامي 2016 – 2017، مرورا بـ “لَمَّة لَحْبَابْ”، وانتهاء بالبرنامج المتميز: “نَبشٌ فِي الذَّاكِرَة” المذاع سنة 2019؛ ومما عمق العلاقة بين الأستاذين الملحوني والباهري، تلك الجلسات الخاصة التي جمعتهما لملء بعض البياضات التوثيقية ليس فقط في حياة الفنان الباهري، لكن أيضا في مسيرة ومآلات عدد من الظواهر التي كانت رائجة في الساحة الثقافية والفنية في مغرب السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات، وهو ما كان يعطي لتلك الجلسات قيمتها العلمية والتوثيقية. إن تنوع اللقاءات بمعية المحتفى به أتاحت للمؤلف الاحتكاك أكثر بشخصية المتَرجم له، ومن خلال ذلك الإجابة على عدد من التساؤلات والمغالطات التي كانت رائجة في سماء الفن في فترة معينة، ولعل منهج المجالسة والتثبت من الحوادث والآراء من بين ما يتميز به المؤلف أنس الملحوني، وقد لاحظت ذلك من خلال طريقة جمعه للمعلومات سواء في برامجه الإذاعية، أو من خلال مشاركاته البحثية المتعددة.
حرص أنس الملحوني على التنصيص على غزارة أعمال الأستاذ أحمد الباهري وتنوعها، وهو بذلك يحيل من طرف خفي إلى إحدى أركان الخطاب المقدماتي وهو الإشارة إلى أهمية البحث العلمي للموضوع، والأمر يتعلق هنا بعمل تأسيسي حول شخصية لم يتم التطرق إليها وإلى أعمالها من قبل، ومن هنا أهمية العمل التوثيقي المنجز. من جهة أخرى، نسجل بشكل إيجابي وضع المحتفى به في هذا المؤَلَّف ضمن مجراه الصحيح، حيث تبلورت أغلب أعماله الفنية في سياق ما عُرف ب: “الظاهرة الغيوانية”.
التوثيق والمنهج
لقد سبق لي القول – غير ما مرة – إن ما يقوم به الأستاذ أنس الملحوني وأمثاله من الباحثين الجادين في مجال البحث التراثي الموسيقي خاصة، من مجهودات علمية في تقريب بعض مظاهرنا الحضارية إلى المستمع المعاصر، يسعى لسد الفراغ وردم الهوة التي تفصل بين شبابنا اليوم وبين تراثهم بحجاب الاغتراب، وغلبة الأنماط الفكرية والفنية الآتية من الشرق والغرب، وهو بذلك يساهم في نقل الأنماط الموسيقية التراثية المغربية لأجيال جديدة لم تعش هذا التراث، ولم تتذوقه، بل يمكن أن تمجه لاعتيادها على أنماط مغايرة.
وإذا كان الباحث الملحوني قد دق عددا من أبواب البحث العلمي ومجالاته للكشف عن مجموعة من الظواهر الفنية والثقافية التي لا يتم غالبا الالتفات إليها، أو الاهتمام بها إما جهلا أو تجهيلا، فإن مساهمته في هذا الكتاب عن شخصية الفنان والمبدع أحمد الباهري تقتحم مجالين غنيين هما: مجال البيوغرافيا، والتوثيق المناقبي السياقي.
يبدو الأستاذ أحمد الباهري من خلال عمل الأستاذ أنس الملحوني شخصية فنية غنية بالإبداع والمساهمات في عدد غير يسير من المجالات الفنية، بما في ذلك العزف، والغناء، والتلحين، والتأليف الموسيقي، والإبداع الشعري. وهي محاولة لتوثيق وإبراز مسيرته الفنية وإنجازاته، لا سيما في ظل الندرة الواضحة للتوثيق الموثوق، والمتاح حول هذه الشخصية. كما يظهر، الأستاذ أحمد صاحب مهارة فذة ونادرة في اللعب على العديد من الآلات الموسيقية، وعمقًا في معرفة الظاهرة الغيوانية، والتي تجسد حالة ثقافية وفنية فريدة في المغرب.
وإلى جانب مهاراته الفنية المتعددة، وتجربته الإبداعية الفذة، بدا لنا المُترجَم له الفنان أحمد الباهري، صاحب تصور ثقافي ميزه عن الكثير من أقرانه، جمع بين الحفاظ على التراث المغربي، والابتكار في مجالات مختلفة تأرجحت بين الكتابة الشعرية والموسيقية للمجموعات الغنائية الغيوانية، وتلحين مقدمات بعض السيتكومات، والمساهمة في موسيقى بعض الأفلام السينمائية، وكتابة وتلحين بعض الوصلات الإشهارية؛ مما يشير إلى أهمية دراسة شخصية تعتبر شاهد عيان على مرحلة فنية وثقافية عاشها جيل سبعينيات القرن الماضي حيث لا زال صداها يتردد فينا حتى يوم الناس هذا. إننا أمام مرجع ثقافي وفني اعتمد عليه المؤلف في إعداد بعض الحلقات الإذاعية المرتبطة بالظاهرة الغيوانية وغيرها من الظواهر الفنية، ومن هنا تكمن أهمية توثيق هذه المسيرة، ومن هنا – أيضا – تأتي أهمية المجهود المتميز الذي بذله الأستاذ أنس الملحوني وهو يعزز من قيمة التوثيق كوسيلة لحفظ ذاكرة فنية غنية بالوهج الفني، ما أحوجنا إلى التعرف على أعلامها وسيرهم الإبداعية.
من بين أحلى لحظات الكتاب هو الدراسة الغنية التي يقدمها الأستاذ أنس الملحوني حول ظاهرة المجموعات الغنائية الغيوانية في المغرب، مع تركيز خاص على “ناس الغيوان” و” جيل جيلالة”، ويقدم هذا العمل تحليلاً عميقًا للجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أثرت في تشكيل هذه الظاهرة، إضافة إلى علاقتها بفن الملحون والمسرح.
هذا العمل يمثل جهدًا مهمًا في توثيق وتحليل واحدة من أبرز الظواهر الفنية في المغرب خلال القرن العشرين، فالأمر هنا لا يتعلق بمجرد مجموعات غنائية فحسب، بل بتعبير عن الوجدان الجماعي المغربي، ومرآة تعكس التغيرات والتحولات التي عرفها المجتمع المغربي في فترة ما بعد الاستقلال، وأيضا صدى لثقافة شعبية كانت قوة محركة لوعي جماعي جديد. وقد حرص الأستاذ أنس الملحوني على تقديم خلفية تاريخية غنية تربط بين ظهور هذه المجموعات وبين التحولات الاجتماعية والسياسية في المغرب، ليوضح العلاقة التي تربط المجموعات الغيوانية بالمسرح والملحون من خلال تسليط الضوء على الكيفيات التي تمازجت بها هذه الفنون وتداخلت لتخلق تعبيرات فنية جديدة، فالمسرح والملحون كانا رافدين أساسيين في تطور الأغنية الغيوانية، مما أعطاها بعدًا أدبيًا وجماليًا أعمق.
يعرض المؤلف – أيضا – في إطار دراسته للظاهرة الغيوانية تحليلاً عميقًا للنصوص الغنائية، واستخدام الآلات الموسيقية التقليدية، مما يعزز فهمنا لطبيعة الإبداع الفني لهذه المجموعات وكيفية تفاعلها مع التراث الموسيقي المغربي، ومما يعزز الوعي بالحاجة الملحة لتوثيق هذا التراث الغني وحفظه للأجيال القادمة، خاصة في ظل قلة المصادر الموثوقة المتاحة. فالتوثيق هنا ليس فقط للحفاظ على الذاكرة الثقافية، ولكن أيضًا لفهم التحولات التي شهدها المجتمع المغربي من خلال الفن.
وجماع القول، إن الظاهرة الغيوانية في المغرب كما أكد على ذلك الأستاذ الملحوني تمثل حركة فنية وثقافية بارزة نشأت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، وهي جزء لا يتجزأ من التعبير الفني المغربي، حيث ظهرت كرد فعل على التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفها المغرب بعد الاستقلال. أسهمت هذه الظاهرة في رسم معالم جديدة للموسيقى المغربية المعاصرة، حيث مزجت بين التراث الشعبي ومتطلبات التعبير المرحلي. وقد حاول المؤلف مقاربة هذه الظاهرة من خلال السياق الخاص لشخصية أحمد الباهري، وكذا من خلال السياق العام عبر التركيز على الجذور، والنشأة، والوقوف على العناصر المميزة.
كيف قدَّم أنس الملحوني شخصية الباهري؟
عرض أنس الملحوني شخصية الباهري كشخصية فنية لها تأثير كبير على الموسيقى المغربية في ارتباطها بمخرجات الموسيقى الغيوانية على وجه التحديد. وقد بدأ عرضه حول الباهري بالتركيز على الجانب الشخصي والفني للعلاقة بينهما، حيث تعرف الملحوني على الباهري في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وذلك خلال تنظيم أمسيات فنية في مراكش. وقد أثار إعجابه الأداء الراقي للباهري على آلة البانجو، وقدرته على التفاعل بشكل مميز خلال تلك الفعاليات. ورغم أن الباهري كان يُظهر شخصية انطوائية وقليلة الكلام، إلا أن الملحوني استطاع أن يكتشف فيه طاقة فنية هائلة، ومهارات موسيقية فريدة، جعلته شخصية بارزة في تطور سيرورة الإبداعات الفنية “الغيوانية”.
تعمق التعاون بين الملحوني والباهري عندما استضافه مرات عديدة على أثير إذاعة مراكش للحديث عن “الظاهرة الغيوانية”. لقد منحت هذه اللقاءات الإذاعية فرصا ثمينة لتعرف الملحوني عن قرب على فكر الباهري الموسيقي والشعري، ورؤيته الفنية. قدم الملحوني الباهري كمرجع أساس للحديث عن المجموعات الغنائية “الغيوانية” الهوى التي انطلقت مع “الغيوان” و”جيلالة” وما تلاهما من مجموعات، أو المجموعات التي ساهم في تأسيسها أو أشرف عليها وكانت من بنات أفكاره مثل: “طيور الغربة”، و”لمشاهب”، و”لَجوادْ”، و”ابّْنات الغيوان”، و”جِيل جَانا”، وما شابه؛ معتمدا عليه في إعداد بعض الحلقات الإذاعية التي تناولت موضوع “الظَّاهرة الغِيوانية”، خصوصاً في ظل نقص المصادر الموثوقة المتاحة. كما أوضح الملحوني أن الباهري يتمتع بمهارات استثنائية في العزف والغناء والتلحين والتأليف الموسيقي والإبداع الشعري مما يجعله من بين الشخصيات الفنية المحورية التي لا يمكن تجاهلها في مجال التوثيق للمجموعات الغنائية المغربية.
ما هي مقومات الظاهرة الغيوانية بالمغرب من منظور الأستاذ أنس الملحوني؟
تمثل الظاهرة الغيوانية حركة موسيقية مغربية نشأت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهي جزء من التراث الفني الشعبي الذي رسخ وجوده في الوجدان المغربي بعمق. ومن أبرز مقومات هذه الظاهرة التي جعلتها مميزة، وذات تأثير كبير على الساحة الموسيقية المغربية، نشير إلى ما يلي:
الجذور التراثية: استلهمت الظاهرة الغيوانية عناصرها من التراث الموسيقي المغربي الشعبي، مثل فن الملحون، وكذا مستعملات بعض الطرق الصوفية الشعبية المغربية من قبيل الموسيقى الكناوية، والعيساوية، والحمدوشية، والجيلانية، وما شابه. لقد كانت هذه الأنماط الموسيقية حاضرة بشكل واضح في أداء الفرق الغيوانية كـ: “ناس الغيوان” و”جيل جيلالة”، مما أضفى على أعمالهم طابعاً شعبياً تقليدياً مع لمسة عصرية.
الآلات الموسيقية والمضامين المُتغنى بها: وفي ذات السياق، فإن جوانب التوسل بالآلات الموسيقية التقليدية، ساهمت هي الأخرى في إضافة مسحة شعبية أصيلة على أداء تلك المجموعات، فآلة “الهراز” كان يحيل على “احمادشة”، وآلة “الدعدوع” يحيل على “هداوة” و”جيلالة”، وآلة “الطبيلات” تحيل على “عيساوة”، وآلة “الهجهوج” تحيل على “اكناوة”، … إنها آلات مغربية عريقة أحالنا طابع أصواتها بمعية المجموعات الغيوانية على الأجواء الروحية التي ميزت العديد من الطرق الصوفية الشعبية، فكانت أصالة تلك الآلات التقليدية من أصالة تلك المجموعات، مساهمة في تشكيل هويتها الفنية والموسيقية.
وفي جانب آخر، استطاعت هذه الفرق أن تكتسب شهرة واسعة بفضل تركيزها على القضايا الاجتماعية الملحة، حيث كان الفنانون يسعون جاهدين لتسليط الضوء على قضايا العدالة الاجتماعية، الفقر، والحرية، معبرين عن معاناة الفئات المهمشة في القرن الماضي، مما يدل على طموحهم إلى حياة أفضل.
تناولت أغانيهم التحديات اليومية التي يواجهها المجتمع، مما ساهم في تعزيز الالتزام بقضايا اجتماعية هامة. وقد تجلت هذه المواضيع في الأغاني التي عكست الرغبة في مستقبلٍ أفضل، وسط التحديات الديمقراطية التي تعاني منها العديد من شرائح المجتمع المغربي.
كما يمكن اعتبار تنوع الألوان والأدوات الموسيقية وتعدد الأنماط النصية ضمن أعمال المجموعات الغيوانية وسيلةً لتسليط الضوء على الأغاني التي تعبر عن واقع المجتمع، مع التركيز على مشاهد معبرة عن العنف والاستبعاد الاجتماعي الذي يُعتبر عائقًا أمام التقدم.
. كيف ساهم الباهري في إغناء إبداعات المدرسة الغيوانية؟
بفضل مهاراته المتعددة في التأليف والعزف، وقدرته الفائقة على استخدام الموسيقى كوسيلة للتعبير عن القضايا الاجتماعية والثقافية في المغرب، أسهم أحمد الباهري بشكل بارز في إثراء التراث الموسيقي المغربي من خلال عدة مجالات:
المهارات الموسيقية: كان أحمد الباهري فنانًا موسيقيًا شاملًا، يتجاوز كونه عازفًا عاديًا. لقد أظهر موهبة استثنائية في تأليف الموسيقى وعزف مجموعة متنوعة من الآلات مثل البانجو، والعود، والمندولين، والبزق، مما أضفى غنىً وعمقًا على أعماله بمعية الكثير من الفرق الغيوانية مثل: “لمشاهب”، و”لجواد”، و”ابنات الغيوان”، و”أهل الحال” … ساهم هذا التنوع على مستوى الأداء في توسيع قاعدة جمهورهم، مما جعل الموسيقى الغيوانية تتميز عن غيرها.
المشاركة في تلحين وتأليف موسيقى لفائدة أعمال للسينما والتلفزيون: لم يقتصر إسهام الباهري على الفرق الموسيقية فحسب، بل اتجه أيضًا لتلحين الموسيقى التصويرية لبعض الأفلام المغربية والبرامج التلفزيونية. لم يكن هذا العمل مجرد وسيلة لتعزيز تأثير الموسيقى الغيوانية، بل أسهم أيضًا في تسليط الضوء على التراث الموسيقي المغربي عبر وسائل الإعلام الحديثة، مما زاد من وجوده في الساحة الفنية على المستويين الوطني والدولي خصوصا عندما فازت بعض الوصلات الإشهارية التي أشرف عليها نصوصا وألحانا بمعية الفنان عبد القادر مطاع على الجائزة الأولى سنة 1984 بمهرجان كان الدولي للإشهار بفرنسا.
القيادة الفنية: تجسد دور الباهري في كونه قائدًا مبدعًا وملهمًا في عدة مشاريع فنية، مثل فرقة “طيور الغربة”، و”لجواد”، و”أوركسترا احميدة”، وذلك بفضل رؤيته الفنية الثاقبة، استطاع توجيه هذه الفرق نحو تحقيق نجاحات فنية ملحوظة، سواء من حيث الأداء أو تأليف وتلحين الأغاني، مما عزز من مكانة الموسيقى الغيوانية داخل المغرب وخارجه.
إحياء التراث الغيواني: لعب الباهري دورًا أساسيًا في الحفاظ على التراث الموسيقي الغيواني وإحيائه، حيث شارك في العديد من المهرجانات الوطنية والدولية المعنية بالتراث الغيواني. فلم يكن إسهامه مجرد مشاركة فنية، بل كان بمثابة توثيق حي لهذا التراث، وضمان استمراريته للأجيال القادمة.
ما هو المنهج الذي اتبعه الملحوني في التعريف بالباهري والظاهرة الموسيقية الغيوانية بالمغرب؟
يستند المنهج المتبع من لدن الأستاذ الملحوني على مجموعة من الأدوات الأساسية تتضمن الحوارات الشخصية، التوثيق الدقيق، التسلسل الزمني، وتحليل الظاهرة الغيوانية:
الحوارات الشخصية: اعتمد الملحوني على الحوارات الممتدة التي أجراها مع الباهري، والتي تمت عبر اللقاءات الإذاعية ووسائل أخرى. كانت هذه الحوارات بمثابة العمود الفقري للنص، حيث منحت الباهري الفرصة للتعبير عن تجربته الحياتية بأسلوب مباشر، مما أضاف بعدًا إنسانيًا وأصالة إلى المحتوى المكتوب. استخدم الملحوني تلك الحوارات لإظهار الرؤية الفنية التي عاشها الباهري وتطورها عبر السنوات.
التوثيق الدقيق: قام الملحوني بتوثيق مفصل لحياة الباهري ومساهماته الفنية. لم يكن النص مجرد سرد للأحداث، بل كان غنيًا بالمعلومات حول المشاريع الفنية التي شارك فيها الباهري، مثل الأفلام، والسيتكومات، والمهرجانات الوطنية والدولية، التي عمل من خلالها على إحياء التراث الغيواني، الشيء الذي يجعل من هاته السيرة الفنية لأحمد الباهري – احميدة مصدرًا ذا قيمة للباحثين والمهتمين بمجال الموسيقى الغيوانية.
التسلسل الزمني: التزم الملحوني بتقديم الأحداث بترتيب زمني منطقي، بدءًا من البدايات الفنية للباهري، ثم الانتقال إلى مراحل نضجه الفني، وإسهاماته المتنوعة في تطوير الموسيقى الغيوانية، ساعد هذا الترتيب القارئ في متابعة تطور شخصية الباهري ومسيرته الفنية بطريقة واضحة وسلسة.
تحليل الظاهرة الغيوانية: إضافة على ذلك، ركز الملحوني على شخصية الباهري عبر توثيقه لمساراته الفنية والإبداعية في سياق الوقوف عند الكثير من المظاهر العميقة للظاهرة الغيوانية في المغرب. وقد أوضح كيف كانت هذه الظاهرة تعبيرًا عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها المغرب في السبعينيات، كما ركز على دورها في توحيد الشعب حول قضايا مثل العدالة الاجتماعية والحرية. اعتمد الملحوني في تحليله على مقارنات مع حركات موسيقية مشابهة عالميًا، مما أضاف عمقًا إضافيًا إلى الرؤية المطروحة.
ختاما
رغم مهاراته المتعددة، ومنسوب إبداعه العالي شعرا وألحانا، وتنوع المشاريع الثقافية والفنية التي اشتغل عليها خلال أكثر من أربعين سنة، عاش الفنان أحمد الباهيري – احميدة زهدا إعلاميا، غير باحث عن الأضواء والشهرة، ونعتقد بأن الأستاذ أنس الملحوني قد تمكن من نفض الغبار على معالم سيرة فنية متميزة، واضعا بين أيدينا وثيقة للتأمل والتدبر، تحمل اجتهادا على مستوى الشكل والمضمون.