الحياة اليومية لخوان غويتيسولو في مراكش
عبد الغفار السويرجي*
إلى رضا ويونس وخالد
تعلمت “الدارجة”
ابتداء من عام 1976 بدأ خوان غويتيسولو يقضي بضعة أشهر من السنة في مراكش، إلى أن استقر بها نهائيا. ومن وقتها والساحة تحتل أهمية كبرى في حياته وأدبه. هناك كتب روايته الشهيرة “مقبرة” التي تستلهم إلى حد بعيد لغات الشارع والحياة اليومية والخيال الشعبي لرواة الساحة. وقد تعلم في جامع الفنا لغة الرصد واستطاع بفضل تواجده المستمر في المكان أن يرصد التغيرات.
يقول خوان: “في هذه المدينة تعلمت “الدارجة” (العامية المغربية) وكونت عائلتي الكبيرة: أصدقاء يكونون برفقتي دائما. بدأت قرابتي بمراكش ببعدها الجمالي- مراكش أجمل مدينة عرفت- ثم تطورت هذه القرابة وانتقلت إلى ناس المدينة ولغاتها ونكاتها وثقافتها. لهذا أعتبر الآن نفسي مراكشيا. ومن ثم أهديت مخطوطة روايتي مقبرة – التي استلهمت في جزء كبير منها فضاء المدينة- إلى مدينة مراكش. وللسبب ذاته، كوني مراكشيا، أهديت جائزة “نيلي ساش” التي منحت لي في ألمانيا إلى مدينة مراكش. لا أعرف إن كنت مراكشيا شرفيا أو مراكشيا وكفى!”.
في بيت الكاتب
تتسلق خيوط الفضاء البيضاء خيوطه السوداء. ينسل إلى مقصورته في علية منزله الكائن في درب سيدي بو الفضايل. يفتح النافذة. شجرة الليمون واقفة. تبدأ الطيور محاوراتها. ينكب على مخطوطته ليمدها قسطا من الحبر. يَنْكَتِبُ… عندما يبدأ ذلك الألم، الملازم لكل مربي كلمات، تسلله إلى العنق، يتوقف عن الكتابة. تكون الحياة قد بدأت في نسج جديدها. يتوجه إلى ساحة جامع الفناء،
– “أخوان، تعال تعال… !” يناديه طبيب الحشرات. أعادته صيحة الطبيب ببحته المعهودة إلى عالم الحلقة. ينتقل عند صديقه ليستمع إلى وصفاته الخارقة. يتابع جولته المعتادة حول الحلقات. جلس في مقهى ماطيش ليرتاح قليلا.
سأله الراوي مرة: “لماذا هذا المقهى بالذات؟” أجابه: ماطيش مرصدي في الساحة. فيها يجتمع الموسيقيون والرواة والحلايقية، ولأنه وسط الساحة فهو مليء بالحياة. “مكاينش شي قهوة نشيطة في العالم بحال ماطيش”. صمت هنيهة ثم أضاف: تمنيت أن تحمل بطاقة هويتي تعريفي الحميم: “أنا ولد جامع الفنا”.
في مقهى ماطيش التقينا عام 1988. التقينا على هامش ندوة الجسد وصورة الآخر التي نظمتها كلية الآداب بمراكش. كنت برفقة إبراهيم أولحيان، وقد قدمنا له الشاعر العراقي كاظم جهاد (ترجم حينها منتخبات سردية لغويتيسولو نشرت في دار توبقال تحت عنوان: على وتيرة النوارس) قائلا: هذان طالبان يقرآن لك ويحبانك. ومن وقتها بدأت ألتقي به في الساحة أو في بيته، حتى الأسبوع الأخير من حياته. قبل أن أسافر لباريس في31 مايو توجهت لبيته لأودعه. لم يعد يتكلم. رآني فأخبرتني عيناه أنه يعرفني. قبلت يده عشرات المرات. تشبثت يده بيدي.. ذهبت لباريس وأنا أعرف أن ذلك لقاؤنا الأخير.. كنت أعرف أنه سيموت.. في الرابع من يونيو اتصلت بي أختي صباحا وأخبرتني بموت خوان.. أخفيت عنها دموعي لكني لم أستطع أن أحبسها وأنا أخبر محمد برادة في الهاتف بموت خوان…
في مقهى ماطيش كانت بداية صداقتنا قبل ثلاثين سنة. كان مقهى ماطيش ملتقى للرواة الشعبيين والحكواتيين إلى أن جاء الكات عام 1994. بموت مقهى ماطيش بدأ خوان يستشعر الخطر المحدق بالساحة ففكر في حلول لحماية هذا التراث الإنساني. في هذا الاطار كتب عام 1997 نصا عنوانه: “ساحة جامع الفناء، تراث الإنسانية الشفوي”. وبدأ حملة للدفاع عن الساحة. هنا دخلت منظمة اليونيسكو على الخط وتبنت أفكاره في الموضوع.
المعطيات الموثقة التي نوردها في هذه المقالة هي ثمرة آخر حوار مطول مع الكاتب حول موضوع علاقته بساحة جامع الفناء. كانت مناسبة الحوار هي الذكرى العاشرة لاعلان ساحة جامع الفناء تراثا لاماديا للإنسانية. فقد نظمت كلية الآداب بمراكش والمجلس الجماعي عام 2011 احتفالا بالذكرى العاشــرة لتصنيف الساحة تراثا شفويا للإنسانية. لــكن المنظمين ارتأوا أن لا يوجهوا دعوة لصاحب الفكرة.. غريب أمــرها هذه البلاد الجاحدة: غريب أمرها مراكش!.. ذهبت للساحة صدفة فوجدت المراكشيين محتفلين بالإعلان ولاحظت عدم وجود خوان غويتيسولو ضمن المحتفلين. غادرت الاحتفال بسرعة فتوجهت مباشرة لمقهى فرنسا. كان خوان وحيدا وحزينا. قلت له لماذا لم يوجه هؤلاء دعوة لك.. لم يجبني.. لكن في صبيحة اليوم الموالي تلفن لي ودعاني لبيته.. وجدت خوان قد أعد مجموعة من الوثائق حتى أقوم بمراجعتها. قال لي هذه هي المرة الأخيرة التي سأتحدث فيها عن ساحة جامع الفناء. أخذت الوثائق وذهبت.. في اليوم التالي بدأنا تسجيل الحوار.. أخذ العمل تقريبا أسبوعا. سافر خوان إلى طنجة فلحقت به. كان يرغب أن يقرأ الحوار وتعليقاتي قبل النشر.. وهذا ما كان..
فكرة تراث شفوي إنساني–
ابتكار شخصي لخوان
في هذا الصدد صرح المدير العام السابق لليونسكو فيديريكو مايور (مجلة المعهد الأوربي للبحر الأبيض المتوسط عدد 13/2010) بما يلي:
“لن أنسى أبدا زيارة قام بها الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو لي في باريس، وعرض علي خلالها فكرته، قال لي: بذات الطريقة التي نهتم بالتراث الثقافي والطبيعي، علينا أن نهتم بالتعبيرات الموسيقية والأدبية أو التعليمية التي عبرها نكتشف الخاصية التي تميز الجنس البشري، أعني خاصية الإبداع، والقدرة على التفكير والابتكار والتخيل، والتوقع والتجديد. ستستفيد الإنسانية كلها لو تنبهت للقيمة التي تمثلها هذه المنتوجات الثمينة، التي أهملت للأسف. لكي”نحصر ما لا يمكن لمسه” ويصبح واقعا، علينا رؤية ما وراء الأحداث اليومية، بعيدا عن التقلبات والتحولات اليومية. من الضروري تحقيق رؤية قادرة على الجمع بين ما هو محلي وما هو عالمي، ما هو راهن وما هو بعيد، ما هو على المدى القصير والشعور بالزمن التاريخي”.
“ولقد وضع اقتراح خوان غويتيسولو المتعلق بحكواتيي ساحة جامع الفناء بمراكش – يضيف فيديريكو مايور- خطة طريق عملية قادت بعد سنوات فيما بعد إلى إقرار الاتفاقية المتعلقة بالتراث الثقافي اللامادي”.
اقترح رئيس منظمة اليونيسكو خلال هذا اللقاء على خوان غويتيسولو تأسيس جمعية غير حكومية في مراكش تتبنى مشروع التسمية وتتقدم به رسميا لمنظمة اليونيسكو.
وجدت أفكار الكاتب إذًا آذانا صاغية لدى منظمة اليونيسكو فتبنت مقترحاته. صرح الراحل لنا فقال “… كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي أن أول المقالات [الذي كتب عن تراث جامع الفناء]، والذي صدرت ترجمته بعد ذلك بقليل في لوموند ديبلوماتيك، قد حظي – بفضل وساطة صديقي هانز ماينكي- باهتمام المدير العام لليونيسكو وقتها، فيديريكو مايور زاراغوسا. اتصل بي الأخير وأعلن أن فكرة “تراث شفوي إنساني” قد أثارت اهتمامه. وأضاف أن مفهوم التراث الإنساني الموجه لحماية الأماكن والآثار والمناظر وما إليه لا يشمل أو لا يحمي كفاية الأنشطة الثقافية وكذا التقاليد للجنس البشري المتعددة والمتنوعة والمعرضة للزوال. وبمساعدة قيمة لبضعة مستشارين، تم عقد لقاء لخبراء في المجال بمراكش في يونيو 1997. كان اللقاء غير الرسمي لخبراء قدموا من جهات الأرض الأربع بداية مرحلة انتقالية دامت ست سنوات. وقد تقرر خلاله تشكيل لجنة تحكيم تجتمع مرة كل سنتين مهمتها دراسة ملفات الترشيح المقدمة من قبل الدول الأعضاء في اليونيسكو أو من قبل الجمعيات غير الحكومية. في اجتماعها الأول في ربيع 2001 درست اللجنة أربعين ترشيحا اختير منها 18، كان ترشيح ساحة جامع الفناء ضمن الفائزين.
بمناسبة زيارة الخبراء -1997- صدر النص الذي أثار اهتمام رئيس اليونيسكو في كتاب بخمس لغات تحت عنوان “جامع الفناء التراث الشفوي للإنسانية” مرفقا برسومات للفنان الألماني المقيم بمراكش هانس فيرنر غوردتس. يقول في النص المذكور: “…عرفت الإنسانية زمنا كان فيه الواقع والخيال يمتزجان، والأسماء تنوب عن الأشياء المسماة، والكلمات المبتكرة تؤخذ بحذافيرها: فتنمو وتزدهي وتحتوي بعضها البعض وتحبل كأنها كائنات من لحم ودم. كانت السوق والساحة والفضاء العمومي أفضل مكان لتوالدها البهيج: فيها تختلط الخطابات وتعاش الخرافات ويصير المقدس موضوع سخرية دون أن يفقد القدسية، وتتوافق المحاكاة الهزلية مع الشعائر الدينية، وتطير الحكاية المحبوكة بلب السامعين، فيسبق الضحك دعواتهم التي يكافئون بها المنشد أو المروض الجوال (…) مدينة واحدة ظلت تمتاز حتى اليوم بصونها لهذا التراث الشفوي الإنساني المنقرض الذي ينعته الكثيرون بـ”العالم- ثالثي”. أعني مدينة مراكش وساحة جامع الفناء، التي بجوارها أعيش وأجول وأكتب بنشوة، منذ عشرين سنة.(…) لما جاء الكات ببذخه، قطرنت الساحة وزينت وشطبت (…) فقدت الساحة بعضا من هرجها وغوغائها، لكنها حافظت على أصالتها”.
***
شكل الكاتب مع بعض مثقفي المدينة عام 1999 جمعية تهدف إلى حماية مختلف العروض الشفوية التي تلقى بالساحة وإعادة الأهلية لها. وقد أنجز عضوان من الجمعية بدعم مالي من منظمة اليونيسكو كتيبا – في تسع صفحات- يعرض أهداف وبرامج إحياء تراث الساحة الشفوي ومن بينها: “تجميع الفنون الشفوية في ركائز مختلفة: صور، أوراق، سمعيات، زخارف تذكارية، وكذا إحداث خزانة وثائق وقاعة الصور والأصوات لوضع التسجيلات السمعية البصرية الخاصة بالساحة تحت تصرف الزوار.. وتنظيم موسم الحلايقي على شكل لقاءات سنوية، وإحياء حكايات الفرجة المتداولة منذ أزمان، والسهر على الإبقاء على الحلقات العريقة والعمل على إعادة المنقرضة منها لحيز الوجود. والعمل على استمرارية تكوين الحلايقية أو استخلافهم. وتيسير إعادة الكتبيين الذين كانوا يزاولون أنشطتهم وسط الساحة. ونشر وإشهار الكتب ووثائق الإرشاد والنشرات الخاصة بالساحة، وإحياء حرفة فناني الساحة والتعجيل بإحداث صندوق إعانة لفائدة الحلايقية الذين كفوا عن مزاولة أنشطتهم بسبب عائق من العوائق القصوى”.
لم تعمر جمعية المراكشيين طويلا. لم يمض عام على التأسيس حتى وقعت مشاكل بين عضوين منها فانصرفا إلى حال سبيلهما.
(*) ماذا تحقق من مشاريع جمعية ساحة جامع الفناء تراث شفوي للإنسانية؟
غويتيسولو: “أهم ما أنجزناه هو موسم الحلايقي: نظمنا خلال بضعة أشهر جولات للرواة الشعبيين في المدارس ألقوا خلالها أمام الأطفال حكايات. كان الهدف من ذلك هو أن يعتاد الصغار على هكذا إرث. تلك أفضل طريقة لضمان الاستمرارية. بعد ذلك عقدنا لقاء في تاحناوت (2003)، وإلى جانب العديد من الباحثين ألقت باحثة ألمانية تجيد العامية المغربية مداخلة عن دور النساء في الساحة. كان ذلك آخر لقاء نعقده، كلما اتصلت بهم كي نجتمع كانت لديهم دائما أعذار. قطعوا صلتهم بي نهائيا لما بعثت الرسالة. ولأنني لا أومن بكون التدخلات السماوية يمكن أن توقف عملا، أعتقد أن ثمة أسبابا أو بالأحرى مصالح مادية في المسألة. على أية حال لقد تركوني وحيدا. ولأني لا أستطيع أن أدير جمعية بمفردي كانت رسالة استقالتي”.
في أواخر عام 1999، أخبرني غويتيسولو بمشروع عمارة اللوكس وطلب مني أن أتقصى الأمر. كان عمدة ذلك الوقت قد شرع في بناء أساسات “قيسارية اللوكس” في قلب الساحة، بواجهة من الكريستال يبلغ ارتفاعها 15 مترا، وكذا مرآب للسيارات يمتد تحت ثلاث طبقات أرضية. كان يرغب بجعل الساحة مركزا تجاريا. توجهت لقصر البلدية مدعيا أن صديقين عراقيين يودان شراء محلين تجاريين بعمارة اللوكس التي كان مجسمها معروضا أمام الناظرين في بهو البلدية. رحب بي مهندس المشروع وحدثني في تفاصيل تخص العمارة. عندما سألته إن كان ارتفاع العمارة هو 15 مترا أدرك المهندس هدفي من الأسئلة. جمعت أوراقي وكتبت مقالا تحت عنوان “جامع الفنا في خطر”. ترجمته للفرنسية وعرضته على خوان قرأه فقال لي يمكنك الآن نشره. بعد عدة أيام من صدور المقال أخبرني خوان أنه التقى الناطق باسم القصر الملكي في فندق المامونية حسن أوريد، وأخبره أن صاحب الجلالة بعد الاطلاع على مقال “القدس العربي” أمر الجزولي بأن يوقف المشروع.
يقول خوان: “بالفعل، لقد استطعنا أن نوقف مشروع موقف السيارات وقيسارية اللوكس. كانوا سيبنون وسط الساحة سوقا ضخمة على شاكلة مرجان. كانت تلك المشاريع تخرق ظهير 1922 الذي يحمي معمار المدينة. كانت لو تحققت ستقضي نهائيا على حياة البازارات الصغرى وكل الأنشطة التي تقام في الساحة. ركزنا على أن لا تتحول الساحة إلى مرآب للسيارات. وهم ينبشون الأرض كي يثبتوا أعمدة الإنارة الخاصة بالمطاعم المتنقلة وجدوا أساسات جامع المنصور الذهبي. جاء مسؤول مفتشية المآثر التاريخية السيد فيصل الشرادي وأراني ما تم اكتشافه، فأوقف الأشغال. لقد منع الإعلان بحق حدوث ذلك. كانوا سيخربون الساحة: أو ليس ذلك جنونا حقا؟ بعد الإعلان لم يعد أحد للحديث عن المشاريع إياها. بديهي، لم يرق ذلك أبدا لأصحاب البنايات الخرافية”.
***
بعث الكاتب بتاريخ 16 أكتوبر2005 إلى رئيس جمعية ساحة جامع الفنا تراث شفوي للانسانية والبقية الباقية رسالة قال فيها: “…لاحظت منذ يونيو 2003 أن جمعيتنا لم تعد تشتغل. انقطع التواصل بيننا دفعة واحدة. وبقيت القرارات التي اتخذناها على عجل خلال لقاءاتنا النادرة حبرا على ورق، ولم تنجز قط. كل القرارات معلقة والكلام فارغ. باختصار، لم نلتزم بتعهداتنا والتزاماتنا المبرمة مع اليونيسكو، وفقدنا مصداقيتنا أمام عشاق الساحة الذين أبدوا رغبة عارمة في التطوع والتعاون معنا… من بوسعه الإحساس والتخفيف من معاناة الرواة؟… أضحى هذا الوضع بالنسبة لي لا يطاق. إن تخصيص مبلغ 3000 درهم شهريا من أجل أداء مستحقات كراء مكتب فارغ يبدو لي أمرا عبثيا، بل غير طبيعي. ألن يكون من الأفضل توزيع هذا المبلغ على الرواة وفناني الساحة الأكثر احتياجا؟ أو تحويل المقر كملجأ للذين يفترشون الأرض ويتغطون السماء وجيوبهم فارغة. رغم استقالتي النهائية من الجمعية، ورغم أني لم أعد أنتمي إليها مطلقا، أعتقد أنه من الأفضل لك القيام بجرد للحصيلة المالية التي استأمنت عليها من طرف منظمة اليونيسكو بصفتي رئيسا للجنة التحكيم الدولية المكلفة بالتراث الشفاهي واللامادي للإنسانية وتغلق الحساب البنكي الذي تملك صلاحية توقيعه، وترجع ما تبقى من مال لمنظمة اليونيسكو…”.
***
بعد تبني اليونيسكو للفكرة تشكلت لجنة تحكيم مهمتها اختيار الفضاءات الثقافية أو الأشكال التعبيرية الثقافية التي تستحق أن تعلن ضمن “تحف التراث الشفاهي واللامادي للإنسانية”، وضمت 18 عضوا نذكر من بينهم: الأميرة بسمة بنت طلال (الأردن)، كارلوس فوينتيس (المكسيك)، هايديكي هاياشيدا (اليابان)، ألفا كوناري (رئيس جمهورية مالي) وعزيزة بناني (سفيرة المملكة المغربية لدى اليونيسكو) وأعضاء من الهند وباكستان والإمارات والقوقاز وليتوانيا وبوليفيا… إبان الاجتماع الأول للجنة في 15 مايو 2001 ألقى غويتيسولو خطابا يدعم ترشيح ساحة جامع الفناء، عنوانه: “حماية الثقافات المهددة”، طرح فيه علاقة الكتابة والشفوية وكذا أثر وسائل الاتصال الجماهيرية على هكذا تراث، فقال: “وأما طبيب الحشرات الذي يتوفر على طاقة لغوية ومهارة ارتجالية أَسَرَتَا جمهور حلقته طيلة عقدين من السنين، فكان يسخر في الغالب من اللغة المتخشبة الصادرة عن إذاعة بلده وتلفزتها”. وبين كيف “ترفق هذه الشفوية الثانوية بفن غير مادي هو ثمرة الإطار الملموس والمادي الذي تشكله الحلقة: تكشيرات وإيماءات ولحظات صمت وضحكات وبكاء (…) إن مشهد جامع الفناء يتكرر يوميا، لكنه مختلف في كل يوم. فالأصوات والأصداء والإيماءات تتغير مثلما يتغير الجمهور الذي يرى ويسمع ويشم ويتذوق ويلمس. هكذا يندرج الإرث الشفوي في إرث آخر أشد سعة ورحابة. يمكننا أن نطلق عليه إسم الإرث غير المادي (…)”. وختم كلمته بالقول: هكذا يفتح تبني اليونيسكو مفهوم “الإرث الشفوي واللامادي” الجديد، الطريق للمحافظة على الثقافة الشفوية لمئات اللغات التي تفتقر إلى الكتابة (أنظر الترجمة الكاملة للخطاب ضمن مواد “تراث شفاهي ولامادي للإنسانية”/ دفاتر الهندسة المعمارية والتمدن، 2007.)
***
(*) أعلنت ساحة جامع الفناء رسميا من قبل اليونيسكو تراثا شفاهيا ولاماديا للإنسانية في 18 مايو 2001. كيف تلقى المغرب نبأ الإعلان؟
غويتيسولو: بصفتي رئيسا للجنة وصلتني من كافة المدن التي ترشحت للإعلان رسائل شكر. وحدها مدينة مراكش لم ترسل شيئا. لم يفاجئني الأمر قط، وأكثر من ذلك فقد صرح عمدة المدينة، في تظاهرة نظمها بعيد الإعلان، أن اليونيسكو قد سرقت صوت الساحة. لم أجد العون طيلة مدة اشتغالي في الموضوع إلا من عزيزة بناني سفيرة المغرب لدى المنظمة والمعماري الكبير سعيد ملين.
(*) غريب أمرك أيتها البلاد الجاحدة: غريب أمرك مراكش..؟ احتفت مراكش في 2011 بالذكرى العاشرة لتصنيف الساحة تراثا شفويا للإنسانية. لم تتم دعوتك لهكذا احتفال، والمسؤولون أيضًا لم يوجهوا دعوة لصاحب الفضل؟
غويتيسولو: منذ ثلاثين سنة خلت وأنا أعرف إدارة ومسؤولي البلدية لذلك لم أستغرب بتاتا. لم تكن الثقافة يوما شاغلا يشغل بالهم، مع ذلك أرى أن الأدب ليس من خصالهم. باختصار، ذلك مشكل يعنيهم وحدهم، أما بالنسبة لي فالأمر سيان. لا شيء يجبرهم على دعوتي. كنت طيلة أربع سنوات رئيسا للجنة تحكيم اليونيسكو أما الآن فقد أصبحت مواطنا لا أمثل إلا نفسي. ربما لأنهم يعرفون أني لا أطيق الأنشطة الرسمية، وربما رغبوا بأن يجنبوني عناء الإصغاء طيلة نصف ساعة لكلام أضحى في عمري لا يمكن تحمله. لقد فعلوا خيرا عندما دعوا شخصا مثل فريدريك متران الذي يمثل عالما رسميا لا أنتمي له قط. الاعتراف ليس من قيم البيروقراطية المراكشية.
أعيد دائما وأكرر: “عاونوني باش نعاونكم”.
***
انتشرت في الساحة الآن مطاعم متنقلة داخل الساحة واحتلت مكان الرواة الشعبيين. وهو ما يجعلنا نتساءل: ما هي الإجراءات التي اتخذتها السلطات المحلية للمحافظة على تراث الإنسانية الشفوي؟.. ألم يحن الأوان بعد لتوكل شؤون تسيير الساحة إلى هيئة مختصة بدل ترك الأمور بيد مجالس محلية تتلاعب بمستقبل المكان؟.
يذكر أن لوائح اليونيسكو التي حددت إجراءات التصنيف (اتفاقية التراث 1972) تتضمن أيضا إجراءات لإلغاء التصنيف وذلك في حالة عدم تحقيق الأهداف. ومن بين أسباب سحب التصنيف حدوث تغييرات أو ضرر للموقع، وتحويل وظائفه الأساسية، وتعديل الأهداف التي من أجلها كان التصنيف. نقرأ في نهاية نص “جامع الفناء تراث شفوي للإنسانية” ما يلي: “تتوهج الكلمات وتتألق وتمد في عمر هذا الملكوت الخارق. لكن الخطر المحدق بالساحة يقلقني أحيانا. فيتكوم الخوف سؤالا على شفتي: إلى متى؟ “.
في أواخر عام 2015، بعد صدور كتاب “قوي مثل تركي”، كنت بصحبة خوان في مقهى فرنسا.. تحدثنا قليلا.. لكننا كنا نتأمل الساحة. كان أمامنا باعة الليمون.. لم يعد الحكواتيون موجودين كما كان في السابق. تحدث خوان فقال بالدارجة المراكشية: “أيكون عرفت الساحة غادي ترجع هكذا ما كنتش جيت النهار سكنت في مراكش”.
أتركوا الرجل في حاله
اتصل بي تاجر في أحد أسواق الخردة في مراكش وهو نشيط ضمن غرفة الصناعة والتجارة محسوب على حزب سياسي، قبل ثلاثة أسابيع، يطلب مني المشاركة في حفل تأبين الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، ولم يكن الشخص يعرف نطق اسم غويتيسولو. في الهاتف أخبرني أن ثمة بعض الأشخاص يريدون تنظيم لقاء تأبيني بمناسبة أربعينية خوان . أرسلت عنوان بريدي الإلكتروني الشخصي له حتى يكاتبني المنظمون الذين لا أعرفهم في الموضوع. وبدل ذلك اتصل بي شخصان أحدهما نقابي والثاني مستشار في البلدية أو ما شابه وطلبا مني المشاركة. وعدتهما بحضوري. لكن في يوم اللقاء اكتشفت أن هؤلاء الاشخاص لا يعرفون خوان لا أديبا ولا إنسانا فكيف يعقل أن يدعوا بأنهم أصدقاء للرجل. تعجبت للمسألة. وقد عرفت أنهم بصدد إعداد جمعية اسمها أصدقاء خوان غويتيسولو.. والغريب أن هؤلاء لا يعرفون لا أدبه ولا الشخص فكيف يشكلون جمعية باسم أصدقاء له وهم غرباء عنه.. أدركت توًّا أنهم من طينة مصاصي الدماء يرغبون في استغلال تراث الإنسانية الشفوي حتى يستفيدوا ماديا. فقد تحدثوا عن إمكانية الحصول على الأموال العمومية.. هنا أدركت غايتهم.. فحتى في العشاء الذي حضرته كانوا يتهكمون على شخص خوان وهم لا يعرفونه لا من قريب ولا من بعيد. على أصدقاء خوان الحقيقيين أن يوقفوا هذه المهزلة حتى لا يسيء الطامعون في استغلال اسمه إليه من أجل غاياتهم الخبيثة..
* كاتب ومترجم مغربي يعمل مديرا لدار نشر كراس المتوحد التي أصدرت في أواخر 2014 ترجمة عربية وفرنسية لكتاب خوان غويتيسولو “قوي مثل تركي“، وهي بصدد نشر كتاب غويتيسولو “جان جونيه في برشلونة“ وكذلك كتاب جماعي عن حياة غويتيسولو وأعماله
The post الحياة اليومية لخوان غويتيسولو في مراكش appeared first on مراكش 24 جريدة إلكترونية مغربية | أخبار مراكش.