هيمنة الآلات .. دورة حياة الذكاء الاصطناعي من الإدراك إلى تهديد البشر
قام “جون مكارثي” (John McCarthy) ( سبتمبر 1927 – 23 أكتوبر 2011)، الملقب بأبي الذكاء الاصطناعي، بصك هذا المصطلح في عام 1956. ووفقًا له، فإن “الذكاء الاصطناعي” هو “علم هندسة إنشاء آلات ذكية، وبصورة خاصة برامج الكمبيوتر”، فهو علم إنشاء أجهزة وبرامج كمبيوتر قادرة على التفكير بنفس الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، تتعلم مثلما نتعلم، وتقرر كما نقرر، وتتصرف كما نتصرف.
وبهذا المعنى، فإن الذكاء الاصطناعي هو عملية محاكاة الذكاء البشري عبر أنظمة الكمبيوتر، فهي محاولة لتقليد سلوك البشر ونمط تفكيرهم وطريقة اتخاذ قراراتهم، وتتم من خلال دراسة سلوك البشر عبر إجراء تجارب على تصرفاتهم، ووضعهم في مواقف معينة، ومراقبة رد فعلهم ونمط تفكيرهم وتعاملهم مع هذه المواقف، ومن ثم محاولة محاكاة طريقة التفكير البشرية عبر أنظمة كمبيوتر، تنتهي بإنشاء آلة بقدرات عقلية بشرية قادرة على الفهم والتمييز والتصرف واتخاذ القرارات.
شروط الذكاء الاصطناعي:
ولما كان الذكاء الاصطناعي هو أنظمة كمبيوتر تحاكي البشر في تصرفاتهم، فإن هذا لا يعني أن أي برمجية تعمل من خلال خوارزمية معينة وتقوم بمهام محددة تُعتبر ذكاء اصطناعيًّا، فلكي نطلق هذا المصطلح على آلة لا بد أن تكون قادرة على التعلم، وجمع البيانات، وتحليلها، واتخاذ قراراتٍ بناءً على عملية التحليل هذه بصورة مستقلة تحاكي طريقة تفكير البشر، وهو ما يعني توافر ثلاث صفات رئيسية هي:
– القدرة على التعلم، أي اكتساب المعلومات ووضع قواعد استخدام هذه المعلومات.
– إمكانية جمع وتحليل هذه البيانات والمعلومات وخلق علاقات فيما بينها.
– اتخاذ قرارات بناء على عملية تحليل المعلومات، وليس مجرد خوارزمية تُحقق هدفًا معينًا.
وفي ضوء ما سبق، فإن خوارزمية البحث على جوجل -مثلًا- لا تصبح ذكاء اصطناعيًّا إلا إذا توافرت فيها هذه الصفات الثلاث، فإذا قام أحد الأفراد بالبحث -مثلًا- عن السياحة في أبوظبي، وأدركت خوارزمية البحث هذا المطلب وأجابته عليه في حدود البحث عن السياحة في أبوظبي فقط، فإن ذلك لا يُعد ذكاء اصطناعيًّا، ولكي يكون كذلك، لا بد أن تجمع الخوارزمية بيانات أكثر، وتعرض مقترحات إضافية، أي أن يقوم النظام من تلقاء نفسه بترشيح إعلانات لهذا الشخص عن عروض السياحة في أبوظبي، وأفضل خطوط الطيران التي يُمكن أن يسافر من خلالها، وأي الفنادق التي يمكن أن يسكن فيها أثناء رحلته، ثم يبدأ بترشيح بعض الأماكن والمعالم السياحية التي يمكن زيارتها في أبوظبي، وبهذا يقدم النظام أكثر من مجرد عملية بحث عادية، وهو ما يحدث بالفعل عبر جوجل، ويُعتبر هذا النوع من الذكاء هو الشكل البدائي والأوّليّ له.
مراحل التطور:
مرّت عملية تطوير الذكاء الاصطناعي بخمس مراحل رئيسية تُمثّل دورة حياة الذكاء الاصطناعي، تبدأ من مرحلة فهم الأشياء، ثم خلق علاقات بينها، ثم إدراك كامل البيئة المحيطة بها، ثم الاستقلال الكامل واتخاذ القرار بصورة منفردة، حتى نصل إلى موجة خامسة يتفوق فيها الذكاء الاصطناعي على قدرات البشر، وهذه المراحل هي:
1- المرحلة الأولى- ذكاء اصطناعي قادر على الفهم: هي أبسط مراحل الذكاء الاصطناعي، وتتمثل في القدرة على فهم احتياجات البشر من خلال التعلم، حيث تقوم الخوارزمية بمراقبة السلوك البشري لأحد الأفراد، ورصد العادات الروتينية التي يقوم بها (مثل: الأخبار التي يفضلها، والأماكن التي يذهب إليها، والكتب التي يحب قراءتها). وقد تعمّقت هذه الموجة في حياة الأفراد بصورة كبيرة، وأصبحت ملمحًا من ملامح الحياة البشرية، وبديهة من بديهياته، فترشيحات الأخبار المفضلة التي تظهر للمستخدمين على مواقع الإنترنت المختلفة، والإعلانات التي تظهر لمنتجات تحتاجها ولكنك لم تقم بالبحث عنها بصورة مباشرة، وترشيحات الأصدقاء والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، والفيديوهات المقترحة التي تظهر على مواقع الفيديو، والأفلام والكتب، بل وحتى الوجبات المفضلة التي تظهر لك على مواقع الإنترنت؛ جميعها نماذج للموجة الأولى المتمثلة في إنترنت الذكاء الاصطناعي التي أصبحت موجة رئيسية في الحياة البشرية منذ خمس سنوات تقريبًا، أي منذ عام 2012، والتي دعمتها المنافسة القوية بين مواقع التواصل الاجتماعي.
2- المرحلة الثانية- ذكاء اصطناعي قادر على خلق علاقات بين متغيرات: وهنا أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على جمع كمية أكبر من المعلومات، وترتيبها، وخلق علاقات بينها، ومعرفة العلاقة بين السبب والنتيجة. فقد بدأت كثير من الشركات تستخدم خوارزميات ذكية قادرة على التعلم، وخلق العلاقات بين المتغيرات المباشرة وغير المباشرة والتي يصعب رصدها غالبًا، فساعدتها على تحسين كفاءة التشغيل ودقة التنبؤ بالمستقبل، وهو ما مكّنها من أن تدرس احتياجات السوق بصورة أفضل، وأن تتنبأ بمبيعاتها ومكاسبها خلال العام.
واستطاعت المستشفيات أن تتنبأ بالحالة الصحية للمريض بناءً على تاريخه الصحي ومعطياته الحيوية وعوامله الوراثية، واستطاعت شركات التأمين أن تعرف بصورة أفضل أي الحوادث وأي الصناعات يمكن تغطيتها وتأمينها دون أن تحقق خسائر، واستطاعت البنوك أن تكتشف محاولات التزييف والغش والسرقات، واستطاعت الشركات أن تقيم منتجاتها بناء على آراء العملاء على مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي المختلفة، وقد اتضحت هذه الموجة بوضوح عام 2013 مع ظهور كثير من الشركات الناشئة التي بدأت تقدم خدمات الذكاء الاصطناعي للشركات الأخرى مثل Element AI في كندا و4th Paradigm في الصين وغيرهما.
3- المرحلة الثالثة- ذكاء اصطناعي يتسم بالوعي الكامل: في هذه المرحلة أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على الوعي والإدراك الكامل لمحيطه وبيئته، فأصبح يميز الصور والوجوه والأصوات، ويفرق بين الأشياء المختلفة، فظهرت تطبيقات هواتف ذكية تقوم بحل الواجبات المنزلية للطلاب، عبر أخذ الطالب صورة للواجب المنزلي عبر تطبيق الهاتف الذي يقوم بدوره بتحليل عناصر هذه الصورة وتقديم الحل المطلوب. وقد تتعدد استخدامات الذكاء الاصطناعي في هذه المرحلة، فأصبحت الهواتف الذكية تستخدم بصمة الوجه واليد كعنصر أمان، وأصبحت الآلات قادرةً على تمييز الأصوات، بل وتقليدها وتحويلها أيضًا إلى نص مكتوب، وتميزت أيضًا بقدرتها على الترجمة الفورية، فظهرت برامج المساعدة الذاتية التي تعمل عبر الأوامر الصوتية، مثل: ALEXA لشركة أمازون، وCortana لشركة مايكروسوفت، وGoogle Assistant لشركة جوجل، وJarvis لشركة فيسبوك، وغيرها الكثير.
كما ظهرت أيضًا تقنيات الواقع المعزز التي تستطيع أن تميز الأماكن حيث تتيح للأفراد أخذ صور لأحد الأماكن السياحية أو الشوارع وإظهار البيانات الخاصة بهذا الموقع للمستخدم بصورة فورية، كما أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا أيضًا على فلترة المحتوى، ومعرفة ما إذا كان هذا المحتوى المنشور على الإنترنت محظورًا أم لا، ومن ثم التعامل معه بطريقة فورية، وقد استخدمته أمازون في متجرها أمازون جو في تمييز العملاء وتمييز أيضًا ما يقومون بشرائه من منتجات من متجرهم، فبدأ يتشكل وعي للذكاء الاصطناعي قادر على تمييز الأفراد والأشياء والأصوات، وقد اتضحت ملامح هذه الموجة منذ عام 2016 مع ظهور تطبيقات الواقع المعزز وانتشار الهواتف التي تعمل ببصمة الوجه والصوت.
4- المرحلة الرابعة- ذكاء اصطناعي مستقل بذاته وقادر على اتخاذ قراراته: في هذه المرحلة يتميز الذكاء الاصطناعي بقدرته على الاستقلال الذاتي، والقدرة على اتخاذ القرار بصورة مستقلة، حيث تندمج كافة المراحل السابقة، بداية من الفهم ثم خلق علاقات بين عدة متغيرات تساعده على الوعي والإدراك بالبيئة المحيطة به حتى يصبح قادرًا على التصرف والتعامل معها باستقلالية كاملة، وهذه هي الموجة الرابعة، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي مستقلًّا بذاته وقادرًا على استيعاب كافة الأمور من حوله، واتخاذ القرار المناسب. وقد تصبح الموجة الرئيسية لهذه المرحلة مع عام 2020 مع انتشار السيارات ذاتية القيادة في الشوارع والطائرات بدون طيار ومشروعات التاكسي الطائر في السماء، وظهور الروبوتات بكثافة في الشوارع لتنظيم حركة المرور وفي المطاعم والمحال التجارية والمؤسسات الخدمية لتقديم خدماتها للجمهور، وفي المستشفيات لتقديم الخدمات الطبية والقيام بالعمليات الجراحية، وفي المعارك العسكرية للمقاتلة بدلًا من الجنود، حيث تتحول الآلة إلى شبه إنسان قادر على السمع والرؤية والإدراك وتمييز الأمور وتحليلها واتخاذ قرار حولها.
5- المرحلة الخامسة- ذكاء اصطناعي قادر على تطوير نفسه: نتيجة لقدرة الذكاء الاصطناعي غير المسبوقة على جمع المعلومات من كافة المصادر، سواء من الكتب أو مواقع الإنترنت أو الفيديوهات، وتحليلها وخلق علاقات بينها في وقت قياسي، سيصبح الذكاء الاصطناعي أكثر ذكاء، ربما أكثر ذكاء من الإنسان الذي صنعها نفسه نتيجة لقدرته على التعلم التي تفوق قدرة الإنسان، فتصبح قادرة على تصميم آلة أخرى شبيهة بها، أو معالجة خلل فني يحدث به، فيطور أجيالًا من نفسه، أو يجد حلولًا لمشكلات يصعب على الإنسان أن يعاجلها، أو يدرك أن مصادر الطاقة هي سر وجوده فيتجه نحو السيطرة عليها، أو يدرك أن القوة هي سر البقاء فيطور أسلحة يعجز البشر عن مواجهتها، فيتحول البشر إلى تابعين للآلات التي ابتكروها وطوروها وعلموها، فلا يجد البشر حلًّا إلا في الدخول في حرب غير محتومة المصير ضد الآلات، وتتحقق نبوءات أفلام الخيال العلمي ونبوءات العلماء الذين أقروا بأن الذكاء الاصطناعي سيكون سبب فناء البشرية.
لذا وجب الاستعداد لمرحلة سيكون فيها الذكاء الاصطناعي هو المسيطر على الحياة الإنسانية، ويجب العمل نحو إنشاء منظومة قانونية وقيمية وأخلاقية ومؤسساتية شاملة تحافظ على حقوق البشر مثلما تحافظ أيضًا على تطوير هذه الصناعة التي ستغير شكل الحياة البشرية، ولكن يجب أن تضمن عدم سيطرة الآلة على الإنسان، وأن يظل الإنسان هو المتحكم الرئيسي فيها.