كلمة السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بمناسبة افتتاح الدورة التكوينية الثالثة للمسؤولين القضائيين الجدد – الرباط، 26 فبراير 2024
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
الحضور الكريم؛
شكراً لكم على حضوركم لافتتاح هذه الدورة التكوينية. وأستسمحكم في التوجه بهذه الكلمة لزملائنا القضاة المستفيدين من هذه الدورة.
حضرات السيدات والسادة المسؤولون القضائيون ونواب المسؤولين القضائيين؛
إن تهنئتكم بالشرف الكبير الذي حظيتم به من قبل جلالة الملك، رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إذ وضع فيكم ثقة غالية وحمَّلكم مسؤولية عظمى، بإسناد مهام تسيير المحاكم إليكم، لهو شرف للمجلس الأعلى كذلك، الذي يرجو أن يكون قد أحسن اختياره لكم، باعتباركم تمثلون ذلك النموذج من القضاة الذي تَفَوَّق في مهامه القضائية، وتسلَّح بالقيم الأخلاقية السامية، وهو ما يؤهله اليوم لخوض تجربة أخرى في التسيير الإداري للمحاكم والنيابات العامة. وهي مهمة تُعَلَّق عليها آمال كبيرة لتطوير الأداء القضائي، وتحقيقِ النجاعة والفعالية وكسبِ رهان الثقة في المنظومة القضائية.
وإني إذ أهنؤكم بكل حرارة بهذه الثقة الملكية المستحقة، لأذكركم بالأدوار المناطة بكم كما حددها رئيسكم جلالة الملك، إذ اعتبر جلالته القضاء عماداً للمساواة أمام القانون، وملاذاً للإنصاف، وموطداً للاستقرار الاجتماعي، بل إن جلالته قد اعتبر “أن قوة شرعية الدولة نفسها، وحرمة مؤسساتها من قوة العدل الذي هو أساس الملك”، (الخطاب السامي التاريخي ليوم 20 غشت 2009).
ولئن كان جلالة الملك قد حرص منذ توليه الأمانة العظمى لقيادة هذا البلد المحفوظ برعاية الله، على إيلاء العناية لإصلاح نظام العدالة وفي مقدمته القضاء باعتباره من وظائف إمارة المؤمنين، ولكون جلالته هو المؤتمن على ضمان استقلال السلطة القضائية[1]، فلأنه حفظه الله أراد تحقيق هدف غال هو دعم الثقة في القضاء. وقد قال جلالته بهذا الصدد في خطابه السامي بمناسبة ذكرى 20 غشت 2009 : “وأما الأهداف المنشودة، فهي توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف، باعتباره حصناً منيعاً لدولة الحق، وعماداً للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزاً للتنمية، وكذا تأهيله ليواكب التحولات الوطنية والدولية، ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الواحد والعشرين“.
كما أكد جلالة الملك مرة أخرى في رسالته السامية لمؤتمر العدالة الأول بمراكش (سنة 2018) : “أن تعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون، والرافعة الأساسية للتنمية، يشكل تحدياً آخر يجب رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها، لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها مختلف المجتمعات“.
وقال جلالة الملك كذلك : “إننا لحريصون على أن تكون الغاية المثلى من التكريس الدستوري لاستقلال القضاء، هي جعله في خدمة المواطن، وفي خدمة التنمية وفي خدمة دولة القانون“.
في خطابه السامي لافتتاح الدورة الأولى للبرلمان يوم 8 أكتوبر 2019، كان جلالته قد أكد على كون “القضاء مؤتَمَنٌ على سُموِ دستور المملكة، وسيادةِ قوانينها، وحمايةِ حقوق والتزامات المواطنَة“. كما عبر عن إرادته السامية في التأسيس لمفهوم جديد لإصلاح العدالة، هو جعل “القضاء في خدمة المواطن“. وقال حفظه الله بهذا الصدد : “إننا نتوخى من جعل القضاء في خدمة المواطن، قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين، وببساطة مساطرها وسرعتها، ونزاهة أحكامها، وحداثة هياكلها، وكفاءة وتجرد قضاتها، وتحفيزها للتنمية، والتزامها بسيادة القانون، في إحقاق الحقوق ورفع المظالم“.
حَضرات السيدات والسادة المسؤولين القضائيين؛
لاشك أنكم قد أدرتكم من سياق هذه الدرر الملكية السامية حجم المسؤولية التي أنيطت بكم بمقتضى هذا الشرف الذي حصلتم عليه. ولاشك كذلك أنكم تستحضرون كل التزاماتكم الدستورية والقانونية والأخلاقية، بصفتكم قضاة ومسؤولين قضائيين. وأن استحضار هذه الالتزامات يعتبر أول آليات اشتغالكم في مهامكم الجديدة. وبطبيعة الحال فإن هذه المهام تحتاج منكم استحضار آليات أخرى وإتقانها. فدوركم لم يعد يقتصر، كما كان بالنسبة لقضاةِ يُباشرون المهام القضائية وحدها، وإنما أصبحتم مدعوين لتسيير الإدارة القضائية بمختلف تفرعاتها، وتنوع مهامها بين مهام الإشراف على عمل زملائكم القضاة، وتفعيل آليات النجاعة القضائية فيما يخص تجهيزَ القضايا، وتتَبع سيرِها لاحترام الأجل المعقول للبت. وتسهيلَ الإجراءات التي تساعد على تثمين الزمن القضائي وتطويرَ أمد الآجال الاسترشادية، ولاسيما ضبطَ إجراءات تبليغ الاستدعاءات والأحكام وباقي الطيات القضائية، وتحسين مساطر تداول الملفات والوثائق داخل المحاكم، وكذلك نقلَها إلى محاكم الطعون، وكلّ ما يهم تنفيذ مقررات القضاة الصادرة بشأن إجراءات التحقيق في الدعاوى، وتحرير وطبع الأحكام والقرارات، وتسليم النسخ للأطراف، وتسريع مختلف إجراءات التقاضي ومختلف مهام الإدارة القضائية الموسومة بالطبيعة القضائية أو المرتبطة بالولوج إلى العدالة[2].
كما أنكم أصبحتم تشرفون على الإدارة القضائية في جوانبها الإدارية والمالية وما يرتبط بتسيير الممتلكات والموارد المالية للمحاكم وتدبير الوضعية المهنية للموظفين[3].
وقد أصبح من مهامكم أيضاً الإشراف المباشر على أداء زملائكم من القضاة، وتأطيرهم وتحفيزهم للوفاء بواجباتهم المهنية والأخلاقية، وتيسير ظروف عملهم وتذليل الصعوبات التي تواجههم، ودعم انخراطهم في الجهود المطلوب منهم بذلها للرفع من النجاعة القضائية، ولاسيما ما يتعلق بتحرير وطبع المقررات القضائية[4]. والمساهمة في الانتقال إلى المحكمة الرقمية. ولاشك أنكم تدركون قيمة هذا الموضوع وتشعرون بأهميته لتحقيق الرؤية الإصلاحية التي خطها جلالة الملك بقوله السامي : “لعلَّ الرفع من أداء العدالة يظل في مقدمة الانشغالات نظراً لما هو منتظر منها، سواء لدى الأفراد أو من قبل المجتمع. ولا سبيل لتحقيق ذلك إلاَّ بتطوير الإدارة القضائية حتى تدعم جهود القضاة. وقد أبانت التجربة على الدور الذي تلعبه المحكمة الرقمية في هذا المجال“[5].
ولأجل ذلك فإن المجلس يدعوكم إلى الانخراط في هذا المشروع الحداثي، الذي أنيط به من أجله تَتَبُّعُ أداءِ القضاة وتكوينهم وتأهيلُهم لذلك. بالإضافة إلى المساهمة مع الشركاء الأساسيين في منظومة العدالة لتطويره وتحسينه. مع الإشارة أن السلطة القضائية والوزارة المكلفة بالعدل تعكفان على دراسة الموضوع في شموله، وتعملان حاليا على تطبيق بعض محطاته التجريبية في بعض المحاكم من أجل توفير البرمجيات المناسِبة لتحرير المقررات القضائية، وتَسهيل استعمالها على القضاة، وتوفير الإمكانيات والوسائل اللازمة لذلك، بِما فيها التكوين والتدريب.
حضرات السيدات والسادة المسؤولين القضائيين؛
إن مهامكم المرتبطة بصفة المسؤول القضائي، لا تتوقف عند هذا الحد المهني، ولكنها تمتد إلى الجانب الإنساني، المرتبط بعلاقتكم مع المحيط، وهو ما يستلزم منكم اكتساب الآليات الملائمة للتعامل مع رؤسائكم ومرؤوسيكم وزملائكم ومع المنتسبين للمهن القضائية والمتقاضين وغيرهم، بالاحترام الواجب، المستمد من القيم الأخلاقية للقضاء، وبالجدية المطلوبة في المساطر المهنية. ولاشك أن تعاملكم مع المتقاضين، سيحظى منكم بنَفَسٍِ إنساني، يرمي إلى تفهم ظروفهم واستيعاب إشكالياتهم والسعي لحلها بما يتيحه لهم القانون من حقوق، وما يفرضه عليهم من التزامات.
كما أنكم ستكونون مدعوين لتدبير الأزمات الطارئة، وحل الاختلافات المهنية. وهو ما يستدعي منكم نَفَساً آخر يقتضي الحكمة والرزانة والتعقل. وهي قيم من شيم القاضي الناجح، وتُعَدّ بلا شك من الصفات التي لابدَّ أن يتحلى بها المسؤول القضائي للحفاظ على كرامة وسمعة القضاء، وكسب احترام الفرقاء والأطراف.
والخلاصة أن مهامكم الجديدة متعددة ومتنوعة
لا تتوقف عند حدود الإشراف القضائي وتدبير المراسلات الإدارية، بقدر ما تتطلب منكم الإشراف على سير القضاء في دوائر نفوذكم في كل جزئياته المهنية والأخلاقية. والتدبير الحسن للعلاقات بين الفاعلين والمهتمين. ولذلك فلطالما ردَّدْتُ أن مهمة المسؤول القضائي شبيهة بمهمة رئيس المقاولة. مطلوب منه إتقان فنون الإدارة والتسيير، والإلمام بأساليب التأطير والتحفيز، وامتلاك المؤهلات اللازمة لقيادة الفريق، وإجادة تدبير واستعمال الموارد والوسائل، والتوفر على مؤشرات جادة لقياس وتقييم الأداء. لأن غايته هي جودة الإنتاج وتحقيق كسب ثمين، دون المساس باستمرارية المقاولة. غير أنه إذا كان البعض يرى أن نجاح المقاولة يتجلى في الربح المادي ومضاعفة رأس المال، فإن ربح “المقاولة القضائية” هو كسب ثقة المجتمع والمساهمة في بلورة السياسات العمومية، وحماية الأمن والنظام العام في مختلف تجلياتهما الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية. وبطبيعة الحال فإن تحقيق هذا المبتغى لن يتم دون التطبيق العادل للقانون، وبشروط الاستقلال والحياد والنزاهة والاستقامة، وإبرازِ الخُلُق الحسَن. وكذلك تحقيق النجاعة القضائية بجودة الأحكام وتقديم الخدمات، وسُرعة إنجازها، وحسن الاستقبال، والتحلي بالصدق والمصداقية، وإجادة الحوار. وهي قيم قضائية سامية، وصفات إنسانية يجيدها القضاة الذين جعلهم الدستور حماة لحقوق الأشخاص والجماعات ولحرياتهم وأمنهم القضائي ومسؤولين عن التطبيق العادل لقانون[6].
حضرات السيدات والسادة المسؤولين القضائيين المحترمين؛
إننا ننتظر منكم التفاعل الإيجابي والجاد مع مبادرات المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الرامية إلى تأطير العمل القضائي بالمقتضيات القانونية والأخلاقية، والساعية إلى تأهيل القضاة لممارسة مهامهم وتطوير كفاءاتهم المهنية، وإلى وضع المعايير العادلة للتقييم، ولمعالجة الوضعيات المهنية للقضاة وتطبيقها. وإن تفاعلكم لن يكون مجدياً دون إسهامكم في التأطير الإيجابي والدعم النفسي والمعنوي للقضاة العاملين تحت إشرافكم. بما يقتضي ذلك من شرحٍ وتوضيح للمساطر الإدارية المهنية، والعمل على ضبط تطبيقها واحترامها، وسلوك الإجراءات القانونية للتظلم والتشكي بشأنها. وأن ذلك يتطلب منكم مواكبة الجهود التي يبذلها المجلس في الوقت الراهن لتحسين تطبيق المعايير المنصوص عليها في الدستور والقوانين والنظام الداخلي ومقررات المجلس الأخرى. والتي يأمل المجلس أن ينتهي من تنظيمها ووضع الوسائل اللازمة لضبط تطبيقها في أقرب الآجال، بما هو منتظر منها من إنصاف ونجاعة وشفافية. ولاسيما المقتضيات التي تضمنتها تعديلات القانونين التنظيميين للمجلس والنظام الأساسي للقضاة، والنظام الداخلي للمجلس.
حضرات السيدات والسادة المسؤولين القضائيين؛
لاشك أن هذه الدورة التكوينية تعتبر التزاماً مهنياً يندرج في إطار تأهيل القضاة لتحمل المسؤولية القضائية، وتطوير كفاءتهم. ولذلك فإنها تقتضي منكم الإقبال على فقراتها بنَفس الرغبة في المعرفة، وبإحساس المسؤولية الشديد، وبشغف العالم الراغب في المزيد من العلم. ولأجل ذلك، فأنا مدين لكم بالشكر والامتنان.
كما لا أشك في أن زملاءكم وباقي الشخصيات المكلفة بالتكوين، سيبذلون ما في وسعهم لإشراككم فيما اكتسبوه من تجربة وما توفر لديهم من معرفة. وباسمي وباسمكم جميعاً، أتوجه إليهم بجزيل الشكر والعرفان.
كما أن هذه الدورة، ما كان لها أن تتم، لولا المساهمة القيمة والمجهود الجاد الذي بذلته رئاسة النيابة العامة ووزارة العدل إلى جانب المجلس في التنظيم والبرمجة واختيار المواضيع والمكونين. وهو ما يستدعي مني تقديم شكر خاص للسيد الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة والسيد وزير العدل، والسيدان الكاتبان العامان للمؤسستين ولكافة الأطر التي ساهمت في بلورة هذا المجهود.
كما أنني مدين للسيدات والسادة أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية والأمين العام والمفتش العام والمدير العام وللسيدات والسادة رؤساء الأقطاب والأطر الأخرى بالمجلس على مساهمتهم القيمة واهتمامهم المتواصل بتحقيق هذا العمل، الذي يرجى منه فتح بعض آفاق التدبير المستنير لزملائهم المعينين حديثاً للإشراف على إدارة المحاكم. والشكر واجب كذلك لجميع من ساهم في ذلك من بعيد أو عن قرب.
والسلام عليكم ورحمة الله.